منذ طفولتي كان القلم رفيقي الدائم، لم يكن يترك أصابعي ولو للحظات، أذكر أنني في طفولتي كنت أحياناً أدخل الحمام بصحبة قلمي، وكم حدثت من مشاجرات بيني وبين المعلمات في المدرسة بسبب قلمي، ومنها أنني ذات مرة وأنا في المرحلة الابتدائية –لا أتذكر أي صف- طلبت منا المعلمة –أذكر أن اسمها كان نجوى وأعتقد أنها كانت معلمة الرياضيات- أن نترك القلم لنستمع إلى شرحها؛ ففهمت المغزى بأن نركز في شرحها ولا نستمر في الكتابة؛ فتوقفت عن الكتابة ولكن ظللت ممسكة بالقلم بين أصابعي.
رأت احدى زميلاتي في الصف –لا أذكر من هي ولكني أذكر أنها كانت تجلس خلفي تماماً- أنني أخالف أوامر المعلمة وواجبها يحتم عليها أن تخبر معلمتها بهذه المخالفة الجسيمة، فما كان منها إلا أن صرخت بأعلى صوتها منبهة المعلمة أنني لا أزال ممسكة بالقلم بين أصابعي، لم أتصور للحظة أن المعلمة ستأخذها على محمل الجد إذ أنني نفذت ما كانت ترمي إليه من الانتباه لشرحها وعدم الانشغال عنها بالكتابة. ولكن يبدو أنني كنت مخطئة، فإذا بها تهجم علي لتأخذ مني قلمي.
فما كان مني إلا أن أدافع عنه بحياتي فأخبأته تحت المنضدة (الديسك) حتى لا تصل إليه–ظناً مني أنني سأربح بهذه الطريقة- ولكن يبدو أن تلك المعلمة أصرت أن تساوي عقلها بعقل طفلة في أوائل عمرها، فإذا بها تأخذ حافظة أقلامي (المقلمة) كاملة بما تحتويه من كل أنواع الأقلام والألوان؛ فما كان مني إلا أني انفجرت باكية بطريقة أضاعت عليها ماتبقى من الحصة، واضطررنا في النهاية اللجوء إلى مديرة المدرسة –أبلة فاطمة العزيزة إلى قلبي والتي طالما أنهكتها بمشاكلي وتأخري الدائم على الحصة الأولى- والاحتكام إليها.
فجعت الأخيرة بطريقة بكائي المستميت كمن فقد غالياً أو عزيزاً لا يمكنه تعويضه، حاولت تهدئتي وأنتهى الموقف لصالحي بالطبع حيث أعادت لي كنزي الثمين، وإلى يومنا هذا لا أستطيع تفسير تصرفي وانهياري الفظيع هذا؛ فبالتأكيد كان يمكنني استرجاع حافظة أقلامي تلك بسهولة إذا ما أشتكيت للمديرة دون بكاء أو عن طريق والدتي وفي أسوأ الظروف كان سيشتري والدي لي غيرها، ولكن يبدو أن تعلقي بأقلامي الخاصة كان أقوى من أي منطق، فأنا لا أتخلى عن قلمي حتى آخر نقطة حبر أو رصاص به.
وفي فترة ما كنت أحتفظ بأقلامي الفارغة، ولكن الأمر خرج عن السيطرة حيث لم أجد مكاناً أحتفظ بهم فيه فيما بعد مما اضطرني أن أتخلى عن هذه الفكرة المجنونة وأحتفظ فقط بالأقلام غريبة الشكل والهدايا التي تستحق الاحتفاظ بها، وقد ظل تعلقي بالقلم هذا قائماً حتى تخرجي من الجامعة، فقد كتبت به كل أبحاثي وملخصاتي وقصصي وأشعاري التي أشتركت بها في مسابقات عدة ونلت عنها جوائز مختلفة، فقد شاركني قلمي كل تلك اللحظات السعيدة بل كان هو السبب فيها.
ولكن بعد تخرجي من الجامعة وحصولي على أول جهاز كمبيوتر محمول خاص بي، عرفت طريقي إلى لوحة المفاتيح الإلكترونية ومن ثم فقدت تواصلي مع القلم، كان لا يفارق يدي ذات يوم، والآن أصبحت أمضي الشهور دون أن أخط به حرفاً، فقدت تواصلي مع كلماتي عندما كنت استنشق عبيرها مع رائحة الحبر على الورق، ساء خطي كثيراً حتى فقدت القدرة على فك طلاسمه، كم خسرنا بتلك التكنولوجيا!