كانت في لقاء تلفزيوني لأحد البرامج تتحدث عن نجاحها وانجازاتها عندما باغتها أحد الحضور بسؤالها عن عائلتها ودورهم في ما وصلت إليه، وجمت للحظة، ولكن ما لبثت ان تماسكت نفسها وعلت وجهها ابتسامة زائفة وفي عينيها نظرة فخر كاذب لتجيب تلك الإجابة المعتادة بأنهم كان لهم دور كبير في نجاحها وكانوا نعم الأهل لها وساندوها كثيراً في طريقها للنجاح.
بعد انتهاء البرنامج أدارت سيارتها لتنطلق بها في الشوارع هائمة على وجهها تحاول أن تداري دموعها عن الجميع وهي تتذكر كيف ساندها أهلها كثيراً وكانوا سبباً في نجاحها، حقاً فلولا ما فعلوه معها يومها ما كانت وصلت لما وصلت له اليوم وما كانت حققت شيئاً في حياتها، لازالت تذكر ذلك اليوم الذي بدأ منه كل شيء بأدق تفاصيله، كانت تجلس معه يتبادلا أطراف الحديث ويتضاحكا معاً، كان ذاك أخيها الوحيد الذي لا تملك سواه في هذه الدنيا.
كان رفيق صباها ومصب أسرارها، فشل أبواها في أن يلدا لها أخوة أشقاء فكان هو أخيها الوحيد، ولم لا؟! أليس أبواهما اخوة؟! فما الضير في أن يكونا أخوة هما أيضاً ولو حملت بهما أرحاماً مختلفة؟! كان بالنسبة لها هو أخيها الحقيقي، كانت تهرول إليه في كل مرة يضايقها أحد ما ليكون هو سندها الذي يحميها ويدافع عنها ويأتي لها بحقها، كم تشاجر كثيراً لأجلها، ضرب وضُرب، وكانت هي أيضاً تدافع عنه في كل مكان وتقف كسيف حاد لكل من تسول له نفسه أن يأتي على ذكره بكلمة سوء واحدة في حضورها.
حتى الآن لا تستطيع تصديق ما حدث ذلك اليوم، فجأة تحول أخوها الوحيد الذي كان يحميها ويدافع عنها إلى ذئب يود نهش لحمها وتمزيق شرفها! فوجئت بيده تمتد بين طيات ملابسها لتصل إلى ثديها، لم تكد تفيق من صدمتها حتى وجدته قد انقض على شفتيها يحاول تمزيقها بشفتيه، لم تعي بنفسها إلا وهي تنهال براحة كفها على وجهه تصفعه بكل ما أوتيت من قوة، ولكن بدلاً من أن يفيق ويسترد رشده بعد تلك الصفعة المدوية زاد جنونه.
لم تشعر إلا وهو ينهال عليها ضرباً ويمزق ما تصل إليه يديه من ملابسها محاولاً تجريدها منها، حاولت هي بدورها ردعه ولكنها كانت أضعف كثيراً من أن تتغلب عليه. تمنت أن يسمع أحد صراخها ويأتي لإنقاذها، ولكنه كان يعي جيداً أن ما من أحد في الجوار ولن يغيثها أحد من تحت يديه، وقضى وطره منها وكان له ما أراد، ولكن ما لم يكن في حسبانه أن تأتي عائلتهما في ذلك الوقت بالتحديد ويروهما في ذلك الوضع.
فور أن رأت أبوها هرولت لترتمي باكية في حضنه، ظناً منها أن ذاك الحضن سيحميها مما أصابها وسيكون هو درع وقايتها، ولكنها فوجئت به ينهال عليها صفعاً متهماً إياها بأنها جلبت له العار وفرطت في شرفها وشرفه. كانت مذهولة لما تسمع، لم تستطع تصديق أذنيها، أيتهمها هي بالعار وتلطيخ شرفه؟! ماذا فعلت هي؟ وماذا كان من الواجب عليها أن تفعل؟ كيف كانت ستحمي ذاك الشرف المزعوم ومن كان عليه حمايته هو من هتكه؟!
اجتمعوا ليصدروا قراراً بشأنها، كان قرارهم هو تزويجها لمن اغتصب شرفها حتى يتجنبوا عار الفضيحة! رفضت وصرخت، لم تراه يوماً زوجاً، كان دائماً أخيها، وهل يتزوج الاخوة؟! واليوم صار مغتصبها، اليوم تحتقره وتكرهه كما لم تكره أحداً من قبل فكيف لها أن تتزوجه؟! لم يعبأ أحد لتوسلاتها وصراخها بل اجتمعوا عليها معاً، أخبروها أن تحمد الله أنه قد وافق على الزواج منها بدلاً من أن تواجه المجتمع بعارها أو يقتلوها هم قبلاً.
أمام إصرارها على الرفض ألقوا بها حبيسة جدران حجرتها ومنعوا عنها الطعام حتى ترضخ، ولأول مرة في حياتها تتخذ قراراً يخصها، قررت أن تتركهم ورائها، أن تقطع كل ما يربطها بهم بعد أن قطعوا عنها حبال انسانيتها وتعاملوا معها على أنها شيء مجرد من المشاعر عليه أن يطيع دون أن يفكر أو يشعر، لم يكن بالقرار السهل، قررت أن تهرب من ذلك الجحيم ولكن الطريق جد وعر، فهي لا يمكنها الخروج من غرفتها والسبيل الوحيد المتاح أمامها هو النافذة.
لم يفكر أحد من عائلتها في أن يسد عليها نافذة غرفتها، فلم يعتقد أي منهم أنها قد تواتيها مثل تلك الفكرة المجنونة، أن تهرب من نافذة الدور الخامس، ان احتمالات فقدانها لتوازنها لتسقط كجثة يتضرج منها الدماء أعلى كثيراً من أي احتمال لنجاتها، ولكن هروبها من ذلك الجحيم كان أقوى من أي خسارة، فلا مانع لديها لو أن هروبها يعني موتها، فالله رحيم ولكن هؤلاء القوم لن يرحموها مادامت بينهم.
عزمت أمرها وانتظرت حتى نام الجميع، فتحت نافذتها وتسلقت السور، قفزت من السور لتقف على الظهر الخارجي لمكيف غرفتها الذي لولا ضآلة حجمها لما تحمل وزنها وسقط بها إلى الشارع لتمتزج قطع لحمها بحديده المتهالك، ولكن حمداً لله لم يحدث أياً من ذلك، تحاملت على نفسها وحاولت عدم النظر لما قد يكون أسفل قدميها، جلست على ظهر المكيف الخارجي وحاولت مد ساقيها لتتعانق مع درابزين السلم محاولة تثبيتها على هذا الوضع لتستطع الميل بباقي جسدها.
استطاعت بالفعل تثبيت ساقيها لينزلق جسدها في الهواء حتى تجد نفسها تجلس متماسكة على الدرابزين، لم تكد تصدق أنها نجحت ونفذت منهم، أفتر ثغرها عن ابتسامة واسعة حملت كل معاني النصر، قفزت من على الدرابزين وانطلقت تعدو بكل قوتها فوق درجات السلم هبوطاً حتى وصلت إلى الشارع؛ لتشعر أنها أخيراً قد هربت من ذلك الجحيم، لولا صديقتها التي لجأت اليها ذلك اليوم وآوتها في منزلها ربما كان مصيرها اليوم كفتيات الشارع اللواتي تقرأ عنهن في أخبار الحوادث كل يوم.
لقد فتحت صديقتها لها منزلها ولم تتهرب منها كما قد يفعل الكثيرون خوفاً من المشاكل والفضائح وسوء السمعة إلى آخره من تلك المسميات اللاتي يطلقونها على الضحايا من أمثالها ليساوونها بفتيات الهوى على قارعة الطريق، ولكن صديقتها لم تفتح لها باب بيتها فحسب بل فتحت لها أبواب الحياة، أهلتها لمواجهة حياة جديدة تكون هي فيها سند ذاتها لا تنتظر يد العون من أحد، وقد قررت أن تنتهز تلك الفرصة لتكون شخصاً آخر غير تلك الفتاة الخانعة التي استطاع شخص آخر دهسها وتدميرها في لحظة واحدة دون أن تستطيع حماية نفسها.
لم تكتف بالوظيفة التي وفرتها لها صديقتها -والتي يكتفي بها وبدخلها العديد من الذكور- قررت أن تعلم نفسها وتعوض ما فاتها، أتقنت عدة لغات وارتقت في وظائفها حتى جاوز دخلها الشهري عشرات الآلاف، لتفتتح بعد سنوات قليلة شركتها الخاصة وتصبح أصغر سيدة أعمال في البلاد –تلك البلاد التي لا يوجد بها سوى عدد ضئيل من سيدات الأعمال واللاتي إن وجدن فهن في الغالب وريثات لتلك الأعمال ولسن مؤسسات لها-، اليوم هي قد تخطت كل الحواجز وأضحت أخبارها تحتل المراتب الأولى في الصحف والتلفزيون.
لا تعرف إذا ما كانت أخبارها تصل لوالديها أم لا؟ وما هي ردة فعلهم عما وصلت اليه؟ هل لازالوا يرونها مصدر عار وفضيحة أم تسرب إليهم بعض الشعور بالفخر لما حققته؟ رغم كل ما فعلوه معها وبها لازالت تشعر بالاشتياق إليهم، فهل يشتاقون لها يوماً أم أنهم سعداء بتخلصهم منها ومن عارها؟ فجأة توقفت بسيارتها لتجد نفسها أمام منزل والديها الذي طالما حامت حوله العديد من المرات طوال تلك السنوات المنصرمة ولكن هذه المرة ولأول مرة تفكر جدياً بأن تنزل عن سيارتها وتخطو بضع خطوات للأمام.
بضع خطوات قد تعيد وصل ما انقطع أو تقطع آخر أمل، ولكنها لا تزال حائرة إذا ما كان الأمر يستحق تلك الخطوات أم لا؟!