جولة في الكتب: أنا سلطان قانون الوجود (مجموعة قصصية)

لـ/ يوسف إدريس

      مجموعة قصصية مكونة من 8 نصوص، النص الأول الذي حمل عنوان المجموعة “أنا سلطان قانون الوجود” يحكي عن حادث حقيقي عاشه الجمهور المصري في سبعينيات القرن الماضي ولا زال يُحكى للآن، هو حادث مقتل مدرب الأسود “محمد الحلو” على يد (أو مخالب إن صح القول) أسده “سلطان” أمام جمهور السيرك في عرض الافتتاح، لا أعلم إن كان “يوسف إدريس” كان حاضراً ذلك العرض بالفعل وقد كتب النص معبراً عن نفسه وقتها أم أنه تقمص دور الراوي وتخيل الأحداث والمشاعر بعد أن علم بالحادث.

    فحتى من لم يعاينوا الحادث رأي العين وقتها أثر فيهم كثيراً، فقد أمضيت سنوات طفولتي وأمي تحكي لي هذا الحادث كلما أتت سيرة السيرك على الرغم من أنها لم ترى الحادث ولم تكن بين الجمهور يومها، وكانت لا تزال طفلة في الرابعة عشر من عمرها وقتها، ومعلوماتها عن الحادث استقتها فقط من التلفاز، إلا أنه أثر فيها كثيراً للدرجة التي جعلتها لا تنساه أبداً، فما بالك بكاتب كبير بحجم “يوسف إدريس”، فحتى لو لم يكن حاضراً العرض يومها إلا أن خياله الخصب وقلمه المبدع قادراً على أن يحول حادث كهذا لنص فلسفي في قمة الروعة.

    كُتب النص في 12 صفحة، أول خمس صفحات كانت توحي وكأن النص عبارة عن تقرير صحفي لأحداث اليوم، فقد أخذ يصف أجواء العرض يومها وانطباعات الجمهور والعروض السابقة، ولكن ما لبث أن تحول النص من التقريرية إلى الفلسفية، فإذا به يسبر أغوار الأسد “سلطان” ليصف لنا احساسه يومها وسبب اندفاعه للقيام بمثل هذه الخطوة الوحشية التي ندم عليها لاحقاً حتى مات من الندم، يصل “يوسف إدريس” في نهاية النص إلى فلسفة تلك الحياة التي نحياها، فمن يخاف ويضعف يُقتل، هذا هو “سلطان قانون الغابة وقانون الحضارة وقانون الإنسان وقانون كل الوجود”.

     النص الثاني “جيوكندا مصرية” هو نص شاعري رقيق مرهف الحس، يحكي قصة فتى مسلم في الرابعة عشر من عمره يرتبط بعلاقة صداقة بريئة بفتاة مسيحية في السادسة عشر من عمرها، يراها بهالة من القدسية كملاك من السماء، يراها شبيهة بالعدرة، ولا يبغي أكثر من ذلك، ولكن ما يلبث الأهل أن يضعوا أمامهم السدود ليمنعوهم من اللقاء فيضطرون للكذب واللقاء خفية “إننا ونحن أطفال وصبية نكون أكثر صدقاً مع أنفسنا ومع ما نريد، وما نريده يكون أكثر صدقاً مع الحياة نفسها، كل ما في الأمر أننا صغار في عالم لا يخضع للحياة وقوانينها وإنما ينظمه ويقننه ويحكمه الكبار، ولا بد دائماً أن يتدخلوا، فإذا فعلوا فإنما ليجبرونا، لا لنمتنع، وإنما لنراوغ ونكذب ونكرههم كما نكره العقاب”.

    يقع المحظور عندما يتحول الأمر إلى الخفاء، تتحول العلاقة البريئة إلى علاقة ذكر وأنثى، يتبادلا القبل ويراهما أبوها، لتظل بعدها حبيسة البيت حتى تزف إلى ابن عمها القادم من الصعيد، ويعيش هو الندم لأنه لم يكتفي بعلاقتهما البريئة الطاهرة ورأها أنثى ليس فقط ملاكاً “كمالك الحزين أبكي، وبالندم أحيد، والعالم كئيب، والأيام من فرط طولها عجوز رمادية شائخة، والليالي بلا منتصف أو فجر أو صباح، والعمر بلا زمن”، النص الثالث بعنوان “البراءة” صدقاً لم أفهم منه شيء!

    كان نصاً كتلك النصوص المغرقة في الرمزية التي أمقتها أشد المقت، ولكن هذا النص لفرط رمزيته قد لا يعي القارئ منه شيئاً، النص الرابع بعنوان “لحظة قمر” هو عبارة عن خاطرة لم أرى فيه أي من مكونات القصة، فلا شخصيات ولا أحداث ولا صراع، فقط رجل يمشي في شوارع القاهرة، ينظر للسماء فيرى القمر الذي غاب عنه كثيراً لكثرة البنايات وطولها الذي يحجب السماء فلا يُرى قمرها أو نجومها، النص الخامس بعنوان “حوار خاص” يعرض لجدلية وجود الإله وعنايته من عدمها.

     فبطل القصة يقود سيارته فخوراً بنفسه، يشعر أنه السيد والمتحكم في الأمر، يتسائل في داخله إذا ما كان الإله موجود أم لا، وفجأة يشعر بأن الاطارات الخلفية للسيارة قد انفجرت، ولا يمكنه ايقاف السيارة بالفرامل، فأي تغيير خارجي يطرأ قد يودي بحياته وحياة أسرته التي تركب معه السيارة، والحل الوحيد أن تحدث المعجزة التي تحدث مرة في المليون بأن تظل السيارة في طريقها لا يعترضها شيء حتى تهدأ وتتوقف من تلقاء نفسها، وهذا ما حدث بالفعل لتكون تلك اجابة سؤاله عن وجود الإله ليتسائل أيضاً: أهكذا يجيب الإله؟!

   النص السادس بعنوان “سيف يد” يصور موظفاً بسيطاً مسالماً طول عمره، يتقبل ظلم رئيسه في العمل بصمت طوال الوقت، حتى يتعلم من ابنه درساً في المواجهة عندما يضرب زميله في المدرسة لأنه يفتري عليه وينقل عنه أخباراً كاذبة، ويعلمه بطريقة ضربه له التي ينفذها في اليوم التالي مع رئيسه، وبعد أن يتضاربا ويهلكا من الضرب ينظر إلى موخرة رأسه فيرى شعره خفيفاً فيشفق عليه إذ في خلال عامين سيكون أصلعاً بالكامل.

    النص السابع بعنوان “حكاية مصرية جداً” هي حدوتة بسيطة كنكتة عن شحاذ مقطوع الساقين يطلب من سائق سيارة أجرة أن يوصله ويحكي له حكايته عن اتفاقه مع شرطي المرور ليطيل مدة الاشارة الحمراء حتى يستطيع المرور للشحاذة على السيارات المتكدسة عند الإشارة على أن يقتسم معه أموال الشحاذة واليوم يهرب منه لأنه آخر يوم له في المنطقة وغداً سيأتي شرطي جديد ليتفق مع اتفاق جديد، النص الثامن والأخير بعنوان “عن الرجل والنملة” يحكي عن السجون والمعتقلات.

    يدور النص عن قصة سجين يرغمه آمر السجن على ممارسة الجنس مع نملة!!!!! يضطر للاستجابة لذلك الأمر المجنون بالضغط على مخه وأعصابه ليتخيل نفسه ذكر نملة تثيره أنثى النملة ليضاجعها، “أتصاغر ويكسوني العرق وتطقطق عظامي وتتدشدش دون أن تصبح كفي في حجم ساق النملة لا يكاد يرى ولا بد أن أهوى بوعيي وبإرادتي على كفي وكتفي ولحمي وعظمي ورأسي وبطني وعنقي وأدق وأصغر كي أستحيل ذكر نملة، أفرز هرموناته، وأجعلها بالقوة القاهرة تستجيب لهرمونات أنثاي القابعة مستسلمة، في يدي. هكذا. رأيتها، بألف عين دقيقة لي تكونت، قد استجابت، وكفت عن الحركة، واسترخت، واضجعت. لو كانوا قد عذبوني وقطعت الجبل كله، لو ربطوني إلى ذيل حصان جرى بي القطر كله من أقصاه إلى أقصاه، ألف جلدة، لو فعلوا ما هو أكثر وأكثر لما أحسست بربع معشار ما مر علي من عذاب حتى أفلت الزمام ولم أعد أستطيع الكف وجسدي يمضي يتصاغر ليصبح نملة ويستمر نملة ويعيش ويحب ويزاول الحب نملة.. وعند لحظة النهاية فقدت الوعي..”

    ينتهي به الأمر إلى انهيار عصبي يفقده التوازن يفضي به إلى الموت في النهاية “إرادة أن أكون بشراً أفلت وصارت لي إرادة نملة لا تقوى أبداً على كتمان”.

الإعلان

جولة في الكتب: رحلة الدم (رواية)

لـ/ إبراهيم عيسى

      ألا لعنة الله على السياسة والحكم والسلطة، اغر أي انسان بالسلطة والنفوذ والمال لينطلق عابثاً في ربوع الكون يقتل ويسفك الدماء، ولن يعدم أن يجد تبريراً دينياً يحل له ما يقوم به من سفك للدماء واعلاء له بأنه جهاد في سبيل الله وقتل لأعداء الله، أذو النورين عدو الله؟! وأنتم يا شراذم الأمم من ستنصرون الله؟! آفة عثمان أنه لم يرد أن تراق الدماء بسببه فكان دمه هو الذي أريق ومن يومها ونحن نريق دماء بعضنا البعض في سبيل السلطة والسياسة مدعين أنها لله وفي سبيل الله!!

     أذكر أنني قرأت كتاباً صغيراً عن سيرة “عثمان بن عفان” لا أذكر من كاتبه ولا أذكر عنوانه بالظبط، كان ذلك في أوائل سني مراهقتي، بكيت بكاءاً مراً عندما وصلت لنهايته التي تضمنت مقتله على أيدي من ادعوا أنهم مسلمين وأنهم ينصرون الدين، من يومها و”عثمان بن عفان” أقرب الصحابة إلى قلبي، كان بمقدوره أن يحرض أصحابه ومناصريه أن يزودوا عنه بالسلاح ويقتلوا منهم كما يشاءوا ولكنه أبى، آثر إن كان ولا بد من اراقة الدماء فليكن دمه هو.

    لم يشأ أن يقابل الله ويديه ملطخة بدماء قد تكون أريقت ظلماً، قد يكون صاحبها مسلماً حقاً، وبنو أمية الذين كانوا سبباً في كره الناس له بظلمهم وعربدتهم في الأرض باسمه واستغلال رأفته بهم لقربتهم منه، لم يكتفوا بأنهم كانوا السبب في تلك الفتنة التي أفضت لقتله، بل انهم عاثوا في الأرض فساداً، فنافسوا “علي بن أبي طالب” ابن عم رسول الله على الحكم، وقتلوا من بعده أبناءه “الحسن” و”الحسين” أحفاد رسول الله سيدا شباب أهل الجنة؛ ليستأثروا بالحكم.

    فتحولت الخلافة الإسلامية منذاك لملك جاهلي يتوارثه الأبناء عن الآباء مدعين أنهم يطبقون شرع الله، وهم من الأساس بنوا حكمهم على باطل، “وما بني على باطل فهو باطل”، أعلم أنني ربما قد أكون استطردت في الحديث عن مشاعري ورأيي في الأحداث بشكل عام دون التطرق للرواية، ولكنها حقاً هيجت أشجاني حول هذه الفترة التي هي السبب في كل ضياع نعيشه اليوم، فهي السبب في إفساد السياسة للدين، حيث تجرد بنو أمية من كل ما يمت للدين بصلة ليفوزوا بسياستهم فألصقوا فسادها بالدين ولا زال الحكام على أثرهم يهتدون -أو يضلون-.

    تدور الرواية حول تلك الفترة، حيث تبدأ الأحداث بقتل “علي بن أبي طالب” على يد “عبد الرحمن بن ملجم”، ثم تعود بتقنية “الفلاش باك” لسرد الأحداث منذ عشرين عاماً مضت في فتح مصر حينما أرسل أمير المؤمنين “عمر بن الخطاب” “عبد الرحمن بن ملجم” لـ”عمرو بن العاص” ليقرأ القرآن للجنود، تمضي الرواية في نصفها الأول بين ربوع مصر، يصور “إبراهيم عيسى” شخصية “عبد الرحمن بن ملجم” أنه ذلك الحافظ للقرآن لكن لا يعي منه شيئاً.

    فـ”عبد الرحمن بن ملجم” يحفظ القرآن دون أن يسأل، لا يهتم لمعنى الآية أو المقصود بها، بل يتعجب إذا ما سأله أحد الأطفال الذين يحفظهم عن معنى آية أو كلمة، فقد أمضى عمراً مع “معاذ بن جبل” في خدمته يحفظ عنه القرآن دون أن يسأل، فلماذا يسأل؟! هو كلام الله وعليه أن يحفظه كما هو وفقط، لم يرى رسول الله في حياته ولا أخذ عنه حديثاً، لذا كان ينظر لصحابة رسول الله بشيء من التقديس والإجلال.

      تلك النظرة القدسية كانت سبباً في عذابه الأبدي، فهو نسى أنهم بشر، فإذا به يصدم عندما يراهم بشراً كباقي البشر يخطئون كما يصيبون، ولأنه يعتقد أن الصحابة غير باقي البشر، وأن صحبة رسول الله ترتقي بالانسان عن انسانيته وهي كفيلة أن تجعله ملاكاً لا يخطىء، فإذا ما أخطأ كالبشر فهذا كان كفيلاً لديه لأن يسقط من نظره فيراه منافقاً يضمر الكفر على الإسلام، وهذا ما حدث له نحو “عثمان بن عفان” فقد حمله أخطاء ولاته فكفرهم وكفره معهم.

     النصف الثاني من الرواية كان في المدينة المنورة، مقر الخلافة، حيث تجمع العصاة من أقطار الدولة الإسلامية مزمعين خلع “عثمان بن عفان” عن كرسي الخلافة، رفض الإذعان لهم فانتهى الأمر بهم أن قتلوه ومثلوا بجثته، لم أقرأ من قبل ذاك الجزء الأخير عن دفنه، وهل حقاً وصل بهم الأمر أن رفضوا دفنه في مقابر المسلمين فدفن في مقابر اليهود؟! ولم لا يصل وهل بعد القتل والتمثيل بالجثث من ذنب؟! تنتهي الرواية بمبايعة “علي بن أبي طالب” خليفة للمسلمين وتوجسه من مبايعة “عبد الرحمن بن ملجم” وسحب يده رافضاً بيعته قائلاً: “إنا لله وإنا إليه راجعون”.

    لم تذكر الرواية تفاصيل ما حدث بين البيعة لـ”علي بن أبي طالب” وتغير “عبد الرحمن بن ملجم” ناحيته ليقتله، ويراه كافراً أيضاً كما ذكر في أول الرواية، من المفترض حسب ما ذكر على غلاف الرواية أنها الجزء الأول من سلسلة معنونة بـ”القتلة الأوائل”؛ فهل سيكون هذا هو الجزء الثاني؟ فلننتظر.

جولة في الكتب: صورة المرأة في رحلة ابن بطوطة

لـ/ منصورية بن عبد الله ثالث

      هي رسالة بحثية جامعية لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، قرأتها بعد قراءتي لكتاب رحلة ابن بطوطة، حيث كنت أبحث على شبكة الإنترنت عن مقالات ودراسات عن الرحلة لأتأكد من بعض المعلومات، ووجدت تلك الأطروحة، وكمعظم الدراسات الجامعية التي تتم بهدف نيل الدرجات، تستطرد في أمور جانبية بهدف الحشو والتطويل لتبدو الرسالة البحثية ذاخرة بالمعلومات حتى وإن كان لا رابط بينها وبين موضوع الرسالة الأصلي، فقد استطردت في تفسيرها لمفهوم العجائبية مثلاً كمدخل للحديث عن الأمور العجيبة الوارد ذكرها في رحلة ابن بطوطة.

    ففي هذا الصدد تناولت عجائب القرآن وحروفه والأزمنة والأمكنة والأشخاص والأشياء والأحداث الواردة فيه فيما يزيد عن الثلاثين صفحة، في حين كان يمكن اختصار كل هذا في فقرة أو فقرتين، غير أن موضوع العجائبية أصلاً بعيد عن موضوع البحث الرئيسي وكان يمكن التطرق إليه سريعاً لا أن يحتل فصلاً كاملاً من الرسالة، وكذلك التفصيل في تاريخ السفر والترحال بشكل عام أخذ قسطاً وافراً من الأطروحة البحثية، ليبدأ الحديث عن الموضوع الأساسي للرسالة –وهو صورة المرأة- في الصفحة 150 لينتهي البحث صفحة 220.

     أي أن موضوع البحث الرئيسي لم يستغرق نصف الأطروحة حتى، ولا أنكر أهمية المعلومات المطروحة ولكنني اعترض على عدم ترابطها مع العنوان موضوع البحث، وكان من الأولى أن تتناول الباحثة الشخصيات النسائية الواردة في رحلة ابن بطوطة بكثير من التفصيل خاصة الشخصيات الشهيرة منها التي ذكرت في التاريخ، وتقارن بين ما ورد عنهن في الأدبيات الأخرى وما كُتب عنهن في تاريخ بلادهن وبين ما ذكره “ابن بطوطة” عنهن، كالسلطانة راضية سلطانة الهند التي لا يزال ذكرها حياً لليوم ويضرب بها المثل في بلاد الهند عن الشجاعة والحكمة، وغيرها من النساء الحاكمات وزوجات السلاطين والنساء المشتغلات بالعلوم والفنون اللواتي ذكرهن “ابن بطوطة” في رحلته وكان لهن ذكر في كتب التاريخ المختلفة.

جولة في الكتب: رواية تل العقارب

لـ/ أيمن رجب طاهر

    تدور الرواية في زمنين متوازيين، العصر الحالي من خلال “فيليب” السائح الفرنسي الذي يأتي إلى مصر باحثاً عن تاريخ جده الذي شارك في الحملة الفرنسية على مصر منذ قرنين من الزمان ويشاع في عائلته أنه من سقى “سليمان الحلبي” آخر قطرة ماء وهو على الخازوق، ويتعرف على “سمير” الشاب المصري الذي يعمل مترجماً للغة الفرنسية ويعيش في منطقة تل العقارب حيث أعدم “سليمان الحلبي”، ويكتشفا معاً مذكرات لجد “سمير” “عبد البر” الذي عاصر الحملة الفرنسية وكان مقرباً لسليمان الحلبي.

    من خلال تلك المذكرات تكون الرواية الموازية للعصر الماضي، فيحكي “عبد البر” في مذكراته كيف بدأت الحملة الفرنسية على مصر، وما اقترفه الفرنسيون من فظائع في حق الشعب المصري باسم المدنية والحضارة، ومن خلال علاقته بسليمان الحلبي يحكي أيضاً ما حدث في سوريا وفلسطين على أيدي جيش الحملة، وصولاً لرغبة سليمان الحلبي في الانتقام من الفرنسيين بقتل ساري عسكرهم “كليبر”، على الرغم من أنه كان موكولاً بهذه المهمة في البداية من الأمير العثمانلي في سوريا لقتل نابليون بونابرت.

    فعندما علم برحيل نابليون وأن كليبر حل محله، انتوى التراجع عن المهمة وارسال رسالة للأمير العثمانلي يعلمه بمستجدات الأمور كما نصحه رفقائه المشايخ بالأزهر، ولكن عندما علم بالفظائع التي اقترفها جيش الحملة الفرنسية في مصر من صديقه “عبد البر”، مزق رسالته وقرر المضي في مهمته جهاداً في سبيل الله، وكان له ما أراد، حتى صدر الحكم عليه بالإعدام على الخازوق، واعدام رفاقه في الأزهر بقطع الرقاب واحراق الجثث؛ لأنهم علموا بنيته ولم يبلغوا عنه.

     بعد وضع “سليمان الحلبي” على الخازوق، يذهب “عبد البر” واخته “عفيفة” إلى موضعه بقنينة ماء عندما يعرف أن شربه للماء سيعجل بموته ويريحه من عذابه، يستجيب له الضابط الفرنسي الرؤوف الذي أنقذهما سابقاً من تحرش بعض الضباط بأخته في السوق، ويعطي “سليمان الحلبي” شربة الماء التي ستودي بحياته وتريحه من عذابه، عندما يذكر “عبد البر” اسم ذلك الضابط الفرنسي “أدمون” يتعرف “فيليب” فوراً عليه؛ فذاك هو اسم جده الذي أتى هنا خصيصاً ليكتشف صدق روايته من عدمها.

      تنتهي مذكرات الجد “عبد البر” بانتهاء الحملة الفرنسية على مصر ليذكر بعدها ومضات من حياته الشخصية بزواجه وزواج أخته من أبناء عمهما وإدارته لمخبز والده، ومع انتهاء المذكرات تنتهي فترة اقامة “فيليب” في مصر، والتي خلالها لم يطلع على المذكرات فقط، بل اختلط وعاش بين أناس حقيقين يحفظون تراث بلادهم بين جوانحهم، لا كما يصورهم الإعلام الغربي همج لا يقدرون العلم والثقافة والحضارة يقتلون لأجل القتل فقط! وتنتهي الرواية بتوديع “سمير” لـ”فيليب” في المطار بعد أن يعطيه نسخة مصورة من المذكرات ليترجمها ويحتفظ بها أو ينشرها كما أراد.

    هدفت الرواية إلى تسليط الضوء على كيفية التقاء الحضارات، ليكون هناك حواراً بناء بينهما يتبادلا من خلاله النفع والمعرفة، بدلاً عن الصراع الدائم الذي يدور بين الشرق والغرب في محاولة كل منهما التسلط على الآخر واثبات الفضل له فيما وصلت إليه الحضارة وما حازه العالم من تقدم وازدهار، تمتعت الرواية بلغة سلسة واضحة حتى بعض الكلمات التي بدت عصية على التفسير للفرنسية من مذكرات “عبد البر” لاستخدامها مصطلحات قديمة اندثر التعامل بها في الوقت الحالي، ولكنها بدت مفهومة في سياق الكلام.