جولة في الكتب: رواية العسكري الأسود

لـ/ يوسف إدريس

    العسكري الأسود هو ذاك العسكري الذي كان مكلفاً بتعذيب السجناء السياسيين في اربعينيات القرن الماضي، كان من ضمنهم الدكتور شوقي، الذي خرج من السجن شخصاً آخر غير ذاك الذي دخله، مجرد جثة حية تشارك التمثيل على مسرح الحياة دون روح، حتى تواتيه الفرصة ذات يوم أن يلتقي وجهاً لوجه مرة أخرى مع العسكري الأسود بعد أن دمره المرض الذي قد يكون نفسياً أكثر منه جسدياً، لا أعلم إن كان هناك مرض بالفعل كذاك الذي وصفه يوسف إدريس في الرواية؟!

   فالأمر قد تجاوز الأمراض الجسدية والنفسية المعروفة، فالرجل قد شرع ينهش في ذراعه حتى قطع منها اللحم، أعلم أن يوسف إدريس في الأساس طبيباً ولكن الأمر خارج عن تصوري، واعتقد أن الهدف منه هو تصوير كيف تدور الدائرة على الظالمين؟ وقد لخصها بتلك الجملة التي أتت على لسان “أم علي الحسادة”: لحم الناس يا بنتي.. اللي يدوقه ما يسلاه.. يفضل يعض إن شاء الله ما يلقاش إلا لحمه.. الطف يا رب بعبيدك!

    المثير للسخرية أن يوسف إدريس يكتب عن أحداث حدثت منذ ما يقرب من قرن من الزمان ويصفها بأنها “أشياء لا تحدث إلا في عصور مظلمة، أو في بلاد رغم العالم المضيء لا تزال تحيا في تلك العصور”.. وفي عام 2018 لا زلنا تلك البلاد التي رغم العالم المضيء لا تزال تحيا في العصور المظلمة، لا زال الشباب يغيب في ظلمات السجون “لا يفرج عنه ولا يقدم للمحاكمة ولا يواجه بتهمة”. اللهم إلا تهمة اختلاف الرأي عن رأي النظام السائد.

       أن يكون له وجهة نظر معارضة أو مخالفة للنظام، أن يعترض على ظلم أو فساد قائم، أن يصرخ من الألم تحت وطأة عجلات الزمن التي تدهسه ذهاباً واياباً وهو يحاول أن يوفر أبسط ضرورات الحياة، يلهث ليل نهار ويدور في ساقية لا تتوقف أبداً ليوفر فقط ما يسد جوعه، وإذا ما احتج يوماً وصرخ مطالباً بآدميته وأن يحيا حياة انسانية تحفظ كرامته ورفاهيته كباقي دول العالم كان مصيره غياهب السجون تضيع فيها زهرة سنوات شبابه بدون ذنب أو جريرة.

الإعلان

المجتمع المصري والمشكلة السكانية وجهان لعملة واحدة

إنفجار سكاني + قلة موارد = فقر

تحقيق: سارة الليثي
المشكلة السكانية في بلادنا أصبحت مشكلة متعددة الأبعاد، فهي لا تعني فقط الزيادة في معدلات المواليد وانخفاض معدل الوفيات، وإنما هي أيضاً تظهر فى سوء توزيع السكان الذين يعيشون حول وادي النيل – المنطقة التى لا تزيد عن 4% من مساحة الجمهورية، ويتركون باقي الأرض خالية من السكان، وقد نبعت مشاكل عديدة في مصر من المشكلة السكانية، مثل: عمالة الأطفال والتسرب من التعليم والبطالة والفقر وانخفاض مستوى الخدمات العامة، وغيرها من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجه البلاد.
وقد أجرت الصحفية دراسة ميدانية حول الفقر كأحد نواتج المشكلة السكانية، والعلاقة التي تربط بينهما، وفيما يلي نتائج هذه الدراسة:

  تبين من الدراسة أن 80% من الجمهور يشعر أن هناك مشكلة سكانية فى مصر فى مقابل 8% لا يشعرون بوجود هذه المشكلة مما يدل على انتشار الوعى إلى حد كبير بالقضية السكانية، وعند سؤالهم عن الوسيلة الإعلامية التي هي مصدر معلوماتهم عن القضية السكانية أحتل التليفزيون المرتبة الأولى بنسبة 44.2% تلاه الصحف بنسبة 21.2%، ثم الراديو بنسبة 13.5%، والمجلات بنسبة 8% بينما جاء الاتصال الشخصي في المرتبة الأخيرة بنسبة 2% مما يدل على أهمية التليفزيون فى التوعية بالقضية السكانية أكثر من غيره من الوسائل الأخرى، وإهمال دور الاتصال الشخصى على ما له من فعالية مؤثرة إذا تم استغلاله بشكل صحيح.

   وقد أثبتت الدراسة أن 64% من المبحوثين يرون أن هناك ارتباط بين القضية السكانية وانتشار الفقر فى مقابل 12% لا يرون ارتباطاً بين القضيتين، مما يدل على ازدياد الوعى إلى حد ما بوجود ارتباط بين المشكلة السكانية والفقر لدى الجمهور، وعند سؤالهم عما إذا قاموا بتنظيم الأسرة فعلاً أم لا أجاب 78% من المبحوثين بالنفى فى مقابل 22.2% أجابوا بالإيجاب مما يدل على أنه بالرغم من إدراكهم للقضية وآثارها السلبية إلا أنهم ما زالوا يمتنعون عن اتخاذ القرار بتنظيم الأسرة إتباعا للعادات والتقاليد البالية.

  وعلى الرغم من ذلك فإن ما نسبته 68% من المبحوثين يوافقون على عملية تنظيم الأسرة فى مقابل 12% لا يوافقون مما يدل على تضارب الأقوال مع الأفعال بالنسبة للمبحوثين، وقد أحتل هدف الاهتمام بالأبناء المرتبة الأولى في الأسباب التي تدفع المبحوثين إلى عملية تنظيم الأسرة وذلك بنسبة 37.3% تلاها ارتفاع تكاليف المعيشة بنسبة 33.3% ثم الأسباب الصحية بنسبة 29.4% مما يدل على اهتمام المبحوثين برعاية الأبناء فى المقام الأول وتنظيم الأسرة من أجل تحقيق هذا الهدف.

  أما عن الأسباب التى تمنعهم من تنظيم الأسرة، فقد احتلت الأسباب الدينية المرتبة الأولى بنسبة 50% تلتها الأسباب الاجتماعية والأسباب الاقتصادية بنسب متساوية 25% لكل منهما والأسباب الاقتصادية هى استغلال الأبناء فى الحصول على مورد رزق من خلالهم بإنزالهم إلى سوق العمل فى سن صغيرة سواء للفلاحة فى الأراضى الزراعية أو الأعمال المهنية الأخرى، وهذا يدل على أن الناس ما زالت تعتقد أن تنظيم الأسرة غير جائز شرعاً وتتخوف منه خوفاً من السقوط فى أفعال مخالفة للشرع مما يتطلب توعية دينية جادة فى هذا الموضوع.

   وعند سؤالهم إذا ما كان دخلهم الشهري يكفى احتياجاتهم واحتياجات أسرتهم الأساسية أجاب 42% منهم بالإيجاب فى مقابل 29.2% أجابوا بالنفي، مما يدل على أنه بالرغم من احتياجهم المادي إلا أنهم لا يسعوا إلى تنظيم الأسرة لترشيد نفقاتهم، وعند سؤالهم عن مفهوم القضية السكانية بالنسبة لهم جاءت زيادة السكان فى المرتبة الأولى بنسبة 52% تلتها قلة الموارد بنسبة 42.4%، ثم عدم التوعية وسيطرة رأس المال بنسبتى متساويتين 3% مما يدل على وعي الجمهور بأن زيادة السكان مع قلة الموارد هي السبب في القضية السكانية، ومع ذلك يستمرون في الإنجاب بدون تنظيم متجاهلين هذه الحقيقة.

   وبسؤالهم عن عدد الأطفال المثالي فى الأسرة من وجهة نظرهم أجاب 36% من المبحوثين أن أنسب عدد هو طفلين بينما أجاب 28% أنه ثلاثة أطفال فى حين رأى 24% أن العدد المثالي للأطفال هو أربعة أطفال بينما 12% يرون أنه لا يوجد عدد محدد للإنجاب فى حين لم يرى أى من المبحوثين أنه يمكن الاكتفاء بطفل واحد فقط، مما يدل على زيادة التوعية بوجه عام إلى حد ما بأهمية تنظيم الأسرة وإن كان ينقص ذلك التفعيل اللازم.

   وعن من هو صاحب اتخاذ قرار الإنجاب من عدمه أجاب 77% من المبحوثين إنه الزوج والزوجة معاً فى حين رأى 8% أنها الزوجة فقط وكذلك 8% للزوج فقط، وأيضاً 8% رأوا أن هذا الشأن موكل لله يرزق من يشاء بأي عدد شاء من الذرية، مما يدل على ارتفاع نسبة المشاركة والحوار بين الزوجين في هذه المواضيع بعد أن كان الرجل هو صاحب القرار وحده في الماضي، وعن ثقة الجمهور في مصداقية وسائل الإعلام في تناول المشكلة السكانية أجاب 48% من الجمهور بأنهم يشكون في مصداقيتها إلى حد ما في مقابل 31% يشكون فيها تماماً بينما 16% فقط يثقون فى مصداقيتها مما يدل على وجود فجوة كبيرة وعدم مصداقية بين الجمهور ووسائل الإعلام.

   وعن مقترحات الجمهور لمكافحة الفقر فقد احتلت خلق فرص العمل للشباب المرتبة الأولى بنسبة 39% تلتها زيادة الدخل بنسبة 31% ثم إقامة المشروعات بنسبة 19.4% واهتمام الجمعيات الأهلية بالفقراء بنسبة 8.3% وفي المرتبة الأخيرة جاء القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال بنسبة 3%، مما يدل على اهتمام الجمهور بالعمل والرغبة في توفر فرص العمل للالتحاق بها بدلاً من حمل لقب عاطل والاعتقاد بأن العمل سيوفر الحياة الكريمة لهم ويغنيهم من الفقر. أما عن مقترحاتهم حول الحد من المشكلة السكانية فقد احتل تنظيم النسل المرتبة الأولى بنسبة 36.1% تلاه توفير الخدمات الصحية بنسبة 28% ثم إعادة توزيع السكان بنسبة 19.4% وزيادة التوعية الإعلامية بنسبة 14% بينما جاء الاهتمام بدور الاتصال الشخصي فى المرتبة الأخيرة بنسبة 3% مما يدل على وعى الجمهور بأهمية تنظيم النسل كحل للمشكلة على الرغم من عدم تفعيلهم له.

   ومن هذه الدراسة نستنتج أهمية تفعيل دور وسائل الإعلام في التوعية بالقضية السكانية من خلال تقديم المضمون الإعلامي المناسب للجمهور، وكذلك دور الاتصال الشخصي من خلال تقديم الندوات والمؤتمرات التى تتناول جوانب القضية والتعريف بها، والإكثار من الأبحاث والدراسات التى تدور حول ارتباط المشكلة السكانية بالفقر. وأيضاً الاهتمام برفع مصداقية رسائل وسائل الإعلام لدى الجمهور من خلال عرض الحقائق الفعلية والواقع المرتبط بالمشكلة السكانية وعلاقتها بالفقر وكذلك التوعية الدينية فى المساجد والكنائس والمؤسسات الدينية بأن تنظيم الأسرة ليس حرام شرعاً.

   وأيضاً أن تعمل الدولة على توفير فرص العمل للشباب، ورفع دخل الفرد بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار، وتشجيع صغار المستثمرين على الاستثمار المحلي، وذلك للارتقاء بمستوى معيشة المواطن المصري، وأيضاً زيادة التوعية الإعلامية بالمشكلة السكانية وأهمية تنظيم الأسرة، وكذلك تشجيع الدولة للسكان على الانتشار في أنحاء الجمهورية واعمار الصحراء وعدم التمركز حول وادي النيل مع توفير المساكن والمرافق والخدمات وخفض أسعارها، وذلك للحد من المشكلة السكانية وآثارها. وأيضاً إنشاء أماكن مخصصة للأطفال الصغار وكبار السن والمرضى الذين لا يستطيعون السعى إلى الكسب والعمل لحمايتهم من التسول والتشرد فى الشوارع، وتوفير مناطق آدمية ورعاية صحية لهم، وكذلك مد البنية الأساسية الصحية مثل المياه النظيفة والصرف الصحي فى المناطق التى يسود فيها الفقر والحرمان.

جولة في الكتب: نجوم الصحافة… شهود على العصر

لـ/ محمد مصطفى

     ياااااااااااااااه يا عبد الصمد، اشتريت هذا الكتاب من معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2008 في بداية دراستي بقسم الاعلام بكلية آداب أسيوط، كنت شغوفة جداً لأقرأ كل شيء يتعلق بالصحافة والعمل فيها، كان لدي آمال وطموحات عالية لا تهزها أي رياح، كنت أظن أنني سأجد أبواب الصحف تفتح لي ذراعيها فور تخرجي وكنت أهيئ نفسي طوال الوقت لهذه اللحظة، ولكن دائماً ما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد تغير سوق العمل الصحفي والاعلامي برمته عما درسناه في الكليات والجامعات.

     حتى هذا الكتاب عندما اقرأه الآن فهو لا يفيد أحداً في مجال العمل الصحفي الآن، وإنما قد يعد كتاباً في تاريخ ذلك النوع من الصحافة الذي هو على وشك الاندثار، ألا وهو الصحافة الورقية وبخاصة الصحافة القومية والحزبية، الكتاب هو عبارة عن مجموعة من الحوارات الصحفية مع رموز كبيرة في عالم الصحافة بدءاً من أستاذ الصحافة المصرية مصطفى أمين، مروراً بكل العمالقة الذين تكوا بصماتهم في عالم الصحافة، وهم بحسب ترتيب الحوارات في الكتاب والذي قال عنه كاتبه الذي أجرى تلك الحوارات أنه ترتيب عشوائي وإن كنت لا أظن احتلال مصطفى أمين لقمة الترتيب أتى عشوائياً:

    أحمد بهاء الدين، موسى صبري، أنيس منصور، محسن محمد، صبري أبو المجد، مكرم محمد أحمد، كامل زهيري، سعيد سنبل، أمينة السعيد، ابراهيم سعدة، ابراهيم نافع، جمال بدوي، صلاح منتصر، وجدي قنديل، وحيد غازي، محفوظ الأنصاري، محمود المراغي، زكريا نبيل، سمير رجب، مصطفى حسين، وجيه أبو ذكري، عبد الله عبد الباري، مصطفى نجيب. وقد أجريت تلك الحوارات في ثمانينيات القرن الماضي لذا فقد دارت حول القضايا السياسية والصحفية التي شغلت تلك الفترة، وعلى الرغم من عظمة تلك الرموز إلا أنني شعرت أحياناً بالملل أثناء القراءة لتشابه الإجابات والآراء في مواطن عديدة.

     فكلهم بلا استثناء يمدحون في ديمقراطية عصر مبارك ويثنون عليه ثناء منقطع النظير، وقد يكون هذا حقيقي بالفعل فبعد عصري عبد الناصر والسادات اللذين تفوقا في تكميم الأفواه وغلق الصحف واعتقال الصحفيين والسياسيين، فمن المؤكد أن عصر مبارك بالنسبة لمن عاشوا تلك العصور كان رحمة مهداة، وبالنسبة لمن يعيش عصرنا الحالي أيضاً بالتأكيد، فيبدو أن من يعيش في مصر مبارك بالحبس والاعتقال والتكميم، كانوا جميعاً أيضاً يرون أن نهضة الصحف يكمن في اطلاق حرية اصدار الصحف وهو ما لم يحدث حتى الآن، ولم يعد له جدوى الآن.

     فقد أصبح الآن بامكان أي كان أن يطلق موقعاً الكترونياً صحفياً ببضعة دولارات من أي مكان في العالم ليصل لكل مكان في العالم، ولكن حتى هذا قد أوجدت له حكوماتنا الرشيدة حلاً للتكميم بالتشفير، وعودة للكتاب فهو كما قلت من قبل يصلح كمادة لدراسة تاريخ الصحافة المصرية ورموزها ومعاركهم الصحفية التي خاضوها، ولكنها لم تعد صالحة للتطبيق في ذلك العصر حيث تختلف المعطيات وقنوات الاتصال ووسائل التغطية.

جولة في الكتب: ما وراء الكتابة… تجربتي مع الابداع

لـ / إبراهيم عبد المجيد

     عندما اقتنيت هذا الكتاب كنت أظن أنه يدور حول تقنيات الكتابة، وأنه سيكون دليلاً إرشادياً لي في تلك الجوانب التي أشعر بالتيه معها عندما أشرع في الكتابة القصصية بالتحديد، كبناء الشخصيات وتطور الأحداث ورسم المشاهد وتشخيص الأماكن وما إلى ذلك من تقنيات السرد وفنيات الرواية، وكان ذلك هو سبب شرائي له، ولكنني وجدته مختلفاً تماماً عن توقعاتي، إلا أنني أيضاً أحببته بطريقة ربما لم أحب بها كتاباً من قبل، الكتاب أضعه في تصنيف السيرة الذاتية ولكنه ليس بالسيرة الذاتية المتعارف عليها.

     في هذا الكتاب لا يروي “إبراهيم عبد المجيد” سيرته الشخصية بقدر ما يروي سيرة كل رواية وعمل مما كتب، ما دار في كواليس الكتابة ودفعه لإنتاج هذا العمل أو ذاك، علاقة كل عمل مما كتب بحياته الشخصية، ماذا أخذ منها وكيف أثر فيها؟ لم أقرأ أي من أعمال “إبراهيم عبد المجيد” من قبل وهذه أول قراءة لي له، وأندم بشدة على ذلك، وأيضاً بسبب هذا لا أستطيع الحديث عن الروايات والأعمال المذكورة خلفياتها في الكتاب.

    ربما لو قرأت هذه الأعمال كنت أستطيع المقارنة بين ما أورده هو عنها وما تخيلته أو أحسسته أثناء قراءتها، ولكن بغض النظر عن ذلك، فلو استبعدنا فكرة أنه كتاب يدور حول الكواليس المختلفة لأعمال الكاتب، واعتبرنا أنها رواية تدور حول كاتب وكيف يأتي بأفكار رواياته وقصصه وعلاقتها بحياته الحقيقية سواء ما تأخذه منها عند كتابتها ممزوجة ببعض الخيال أو كيف تؤثر فيها بعد خروجها للنور، فهذا في حد ذاته عمل عظيم، هذا الكتاب جعلني أدرك تماماً أن ما من كاتب يمكنه الاعتماد فقط على موهبته في الكتابة وحصيلته القرائية.

    على الرغم من أهمية هذين العاملين في خلق أي كاتب إلا أنه أيضاً إن لم يتوفر له التجربة الحياتية والحياة الثرية بالمواقف والشخصيات والمشاعر، لن يجد مادة أو فكرة يستمد منها روحاً لأعماله، سيدور في حلقة من التكرار وطرق مواضيع معادة طرقها جميع الكتاب من قبله ولا يأتي بجديد، لابد للكاتب أن يعيش بين الناس ليكتب عن الناس وللناس، لابد أن يحيا تجارب جديدة ويخوض تحديات مختلفة في الحياة ليستطيع أن يعبر عنها، ليستطيع أن يرسم صورة حية لها.

جولة في الكتب: رواية سيدهارتا

لـ/ هرمان هسه

      أخيراً قرأتها، كنت أتشوق كثيراً لقراءة هذه الرواية، وعلى الرغم من أنها جاءت مخالفة لتوقعاتي إلا أنني لا أندم على قرائتها، فقد كنت أتوقع من المراجعات التي قرأتها عنها على موقع الجودريدز أنها تدور حول بوذا، حياته وأفكاره وفلسفته وذاك الدين الذي أنشأه واعتنقه الملايين من بعده وأصبح دينا رسمياً للعديد من الدول الآسيوية إلى يومنا هذا، من بينها اليابان التي قضيت فيها أربع سنوات من طفولتي وزرت فيها العديد من المعابد البوذية دون أن أعرف تفاصيل حياة بوذا نفسه.

     ظننت أن سيدهارتا بطل الرواية هو الاسم الحقيقي لبوذا، وعلى الرغم من أن بوذا ليس الاسم الأصلي فعلاً لصاحبه، إلا أنني اكتشفت من الرواية ان اسمه الأصلي “جوتام”، بينما سيدهارتا بطل الرواية هو شخصية وهمية من المفترض أنه عاش في عصر بوذا والتقى به، وكان ايضاً باحثاً عن الحقيقة، أفنى عمره في البحث عنها، وجرب كل شيء في الحياة للوصول إليها، أمضى طفولته وبدايات مراهقته بين كهنة البراهمة، أعلى طائفة في الديانة الهندوسية، التي كان ينتمي أهله لهم.

    تمرد في مراهقته وأراد أن يصل للحقيقة بنفسه لا يكتفي بأخذها عن الكهنة، فهجر أهله مع صديقه “جوفيندا” وتبع زهاد السامانا، تعلم منهم التقشف والزهد وتتابع الصيام لفترات طويلة، حتى زهدهم وذهب رفقة صديقه “جوفيندا” ليتعرف على الدعوة الجديدة التي يدعو إليها بوذا، التقاه وتأثر به ولكنه قرر أن يسلك طريقه وحده لا تابعاً لأحد، بينما قرر جوفيندا الانضمام لبوذا؛ فتفرق الصديقان، في خضم بحثه عن ذاته وعن الحقيقة التقى بالغانية كاملا؛ فقرر أن يتعلم منها فنون الحب.

    لكي يكون جديراً بمرافقة كاملا كان لابد أن يكون حسن المظهر ممتلئاً بالمال، فانخرط في حياة التجارة والربح، وتعلم من كاملا كافة فنون الحب، ومارس تلك الحياة العادية التي كان يراها تافهة دوماً، حتى استيقظ يوماً من تلك الحياة اللاهية واكتشف أن أيامها كلها تشبه بعضها ولا تفيده بشيء ولا يمكنه أن يتعرف على الحقيقة من خلالها، وليس لأجل ذاك ترك أهله وبيته في صباه، فترك أيضاً تلك الحياة واختفى منها، واكتشفت كاملا بعد اختفاءه أنها حامل بابنه.

    عاد إلى النهر الذي قطعه يوماً ذاهباً إلى تلك الحياة اللاهية، وقابل ذاك الملاح الذي حمله يومها إلى شط تلك الحياة؛ فعرض عليه أن يشاركه حياته ويعمل معه ويعلمه فنون النهر، وذات يوم عبرت كاملا النهر في رحلة حج لزيارة بوذا ومعها ابنهما، لدغها ثعبان بين يدي سيدهارتا ورحلت عن الدنيا تاركة له ابنهما، يتعرف معه على مشاعر جديدة لم يكن يعرفها من قبل، تلك المشاعر التي تجعله يفضل إنساناً آخر عليه ويجوع ليشبع هو ويرغب في إسعاده بأي طريقة.

    ولكن ابنه ذو الحادية عشر عاماً كان قد اعتاد على حياة الرفاهية في كنف أمه، لم يكن يتحمل ذلك التقشف الذي يعيشه أبوه الذي ظهر فجأة في حياته، كان دائماً معترضاً هائجاً حتى هرب ذات يوم وعاد إلى المدينة، حاول سيدهارتا البحث عنه وفي خضم ذلك تذكر ما فعله في مراهقته، فقد ترك أيضاً أبويه، ولم يعد لهما يوماً، ولم يسأل يوماً عن حالهما، اليوم فقط عرف ما قد يكونا عانياه بغيابه، وعرف أن “هكذا تسير الأمور، كل شيء لم يبلغ نهايته من المعاناة، ولم يبلغ خاتمته النهائية، يعود من جديد، ويعاني الأحزان نفسها”.

     بعد فترة رحل صديقه الملاح إلى الغابات بغير رجعة بعد أن تأكد من اكتمال المعرفة لسيدهارتا، وأصبح وحده الملاح، وذاع صيته كحكيم، حتى سمع به صديقه “جوفيندا” فأراد أن يستطلع ذلك الحكيم ويتعلم منه، ليكتشف أنه صديق طفولته، ويعطيه خلاصة حكمته بأنه هو ذاك الحب الذي يجعلنا نعيش مطمئنين “يبدو لي يا جوفيندا أن الحب هو أعظم شيء في العالم، وقد يكون من المهم لكبار المفكرين أن يفحصوا العالم، وأن يفسروه أو يحتقروه، ولكنني أعتقد أن الشيء المهم الوحيد هو أن تحب العالم، لا أن تزدريه، وليس لنا أن يبغض أحدنا الآخر، بل أن نكون قادرين على أن ننظر للعالم وإلى أنفسنا وإلى كل الكائنات في حب وإعجاب وإجلال”.