هوية مصر العربية الإسلامية

بقلم: سارة الليثي

 

       “العربية” هو وصف لا غنى عنه للدلالة على الإنتساب إلى أمة لها تراثها ومواقفها ومقوماتها وخصائصها ومميزاتها. ولا يجوز أن ينتهي هذا الوصف إلى العصبية العرقية، ولا إلى الإنغلاق والجمود الفكري والنفسي، فقد كانت الأمة العربية الإسلامية على مدار تاريخها أكثر الأمم انفتاحاً على الثقافات الأخرى: أخذت منها في يسر ودون حرج، وقد تمثلت ما أخذته وهضمته حتى صار جزءً منهاٍ، بعد أن أدمجته في أصول ثقافتها، ونفت منه ما لا يتسق مع هذه الأصول، ثم أعطت الثقافات الأخرى عطاء سمحاً كان أساساً من أسس الحضارة الإنسانية الحديثة.

       وبعد الفتح الإسلامي لمصر في نوفمبر 641م على يد “عمرو بن العاص” في خلافة أمير المؤمنين “عمر بن الخطاب” (رضي الله عنه) انتسبت مصر إلى الأمة العربية، وصارت اللغة العربية هي اللغة الرسمية لها، وأضحى الدين الإسلامي هو الدين الذي يعتنقه الغالبية العظمى من المواطنين.

      

أولاً: الحياة الثقافية:

 

          كان إسلام مصر فتحاً جديداً في تاريخ الثقافة الإسلامية، إذ اعتنى المصريون بدراسة القرآن والحديث، وما اتصل بهما من علوم دينية كالفقه ونحوه، فشاركت مصر في ذلك برجال من أقطاب علماء الإسلام. فهناك “ورش” القبطي المصري مولداً ووفاة من أعلام القراءات السبع للقرآن الكريم، و”أبو حنيفة الأسواني القبطي” من أصحاب “الشافعي” الذي روى عنه عشرة أجزاء من السنن والأحكام، وبلغ مرتبة الإفتاء. وكذلك “ابن الفارض” (ت 632 هـ) الذي يوضع في الطبقة الأولى في الشعر الصوفي بما في الكثير من قصائده من النظم ورقة الأسلوب وعمق المعنى.

          وهناك أيضاً “ابن رضوان” الذي نشأ وتعلم الطب في مصر، وبرع فيه في الثانية والثلاثين من عمره، ودخل في خدمة الخليفة الفاطمي “الحاكم بأمر الله” الذي عينه رئيساً على أطباء مصر والشام. وقد ازدهرت الحركة العلمية في مصر على عصر سلاطين المماليك ازدهاراً واسعاً في معظم ألوان المعرفة: الأدب، والتاريخ، والجغرافيا، والعلوم الدينية، والطب، والفلاحة، والمعارف العامة، …..، وغيرها، ووجدت الموسوعات الضخمة التي تعالج المعلومات المتباينة المختلفة، مثل كتاب “صبح الأعشى في صناعة الأنشا”، الذي وضع في أربعة عشر جزءً لـ”القلقشندي” الذي ولد بمحافظة القليوبية، وأقام بالأسكندرية وعمل بديوان الإنشاء في عهد السلطان المملوكي “برقوق”.

  وكذلك أيضاً كان هناك مؤلفات أخرى لكتاب عظماء، مثل: “كتاب نهاية الإرب في فنون العرب”، لـ “النويري”، و”مسالك الأمصار” لـ “ابن فضل الله العمري”، وبعض هذه الموسوعات يزيد على ثلاثين مجلداً، وتعد قمة ما وصل إليه الفكر العربي الإسلامي في ميدان المعارف العامة. كما وفد إلى مصر علماء المسلمين من مختلف البلاد للعمل في مدارسها ليتمتعوا برعاية سلاطين المماليك للعلم والعلماء. ومن أشهر العلماء الذين وفدوا إلى مصر: “عبد الرحمن بن خلدون” الذي جاء من المغرب في خريف عام 1332م، وتولى التدريس بمصر عدة سنوات، ثم أصبح قاضياً للمالكية في القاهرة.

 

ثانياً: الفنون التشكيلية:

 

          أثرى الفنان المصري الحضارة الإسلامية بخبرته الكبيرة، فترك الفن القبطي أثرأً بارزاً على الفن الإسلامي بفضل الدور الذي لعبه المسلمون في بناء العمائر الإسلامية، حتى أن الفرق بين الفن القبطي والإسلامي بمصر لم يكن كبيراً، حتى بدأ الفن الإسلامي في مصر يتخذ طابعاً خاصاً في العصر الفاطمي. حيث بلغ الفن المصري ذروته، وخاصة في مدينة القاهرة المعزية، الذي وضع “جوهر الصقلي” أساسها عام 969م، وكانت تشمل عندئذ أحياء الأزهر والجمالية وباب الشعرية والموسكي والغورية وباب الخلق، وأقيمت بها القصور والمتنزهات ودور العلم فضلاً عن الحمامات والفنادق والأسواق، وتجلت في ذلك كله براعة فن العمارة الإسلامي.

          حتى إذا جاء العصر الأيوبي كان ذلك الإنجاز المعماري الكبير الذي يتمثل في قلعة صلاح الدين (أو قلعة الجبل) التي بنيت على أحد المرتفعات المتصلة بجبل المقطم، وشيد “صلاح الدين الأيوبي” قلاعاً أخرى بمختلف البلاد، أهمها قلعة سيناء قرب عين سدر، وقلعة فرعون بجزيرة فرعون في خليج العقبة، وكلها تكشف عن براعة المعماري المصري. وكذلك أقيم الكثير من العمائر المدنية التي لا يزال بعضها قائماً حتى اليوم، منها “قبة الإمام الشافعي” التي تمتاز بنقوشها وزخارفها البديعة، والمدرسة الصالحية التي لم يبقى منها سوى مدخلها وواجهة غنية بالنقوش والكتابات التاريخية.

          وبلغت العمارة في مصر ذروة النضج في العصر المملوكي، مثل جامع “ابن طولون” الذي بناه “أحمد بن طولون” (عام 265 هـ – 879م) في حي السيدة زينب، وهو من أكبر مساجد مصر وأقدم مسجد ما زال محتفظاً بتفاصيله المعمارية، وتزدان جدرانه بـ 128 شباكاً، ولمحراب المسجد كسوة من الفسيفساء الرخامية المذهبة، ويحيط به أربعة أعمدة من الرخام، وكذلك مدرسة (أو جامع) السلطان “حسن بن محمد بن قلاوون” بتصميمه العجيب وأبوابه الفخمة وأيواناته العالية وزخارفه الدقيقة، وقد إمتازت العمارة بالعناية بواجهات المساجد وجمال ورشاقة السقوف ذات النقوش الرائعة.

          وكانت التماثيل الخشبية والحجرية تزين قصور الخلفاء الفاطميين بالقاهرة وقصور السلاطين المماليك. وقطع فن النحت على الخشب في صورة زخارف هندسية شوطاً كبيراً من التقدم في العصر الأيوبي والمماليكي وذلك في المنابر والأبواب والشبابيك والمشربيات. وأضاف الفنان المصري في الزخارف المعدنية طريقة جديدة عرفت بالتكفيت – أي تطعيم الأواني بالذهب أو الفضة أو بهما معاً – وكذلك تفوق المصريون في صنع الخزف ذو البريق المعدني، ويرتبط بفن الخزف صناعة القراميد (القيشاني) التي تستعمل في تغطية الجدران، ولا تزال بقايها ماثلة في العمائر المملوكية.

  وابتكر الإنسان المصري صناعة الزجاج ذو البريق المعدني في العصر الفاطمي، وفي العصر المملوكي الزجاج المموج بالمينا، والمشكاوات ( المصابيح الزجاجية) هي خير ما يعرض جمال هذه الطريقة التي إبتدعها الفنان المصري في العصور الوسطى.

    وهذا خير رد على من ينفي عن مصر هويتها العربية والإسلامية ويريد أن يمحي عنها هذا التاريخ العريق ويدعي كذباً وزوراً أن دخول مصر في الإسلام وانضمامها للهوية العربية كان هو سبب تخلفها ورجعيتها، فمصر ظلت رائدة الحضارة على مر العصور وتحت لواء مختلف الديانات لأن شعبها كان جديراً بها وحرص على تقدمها وازدهارها، نحن من تغيرنا ولم نعد جديرين بمصر، البشر هم من ينهضون بالأوطان، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلنحرص على تغيير أنفسنا لنكون جديرين بمصرنا الحبيبة ولنضعها في المكانة التي تستحقها كما كانت دائماً.

الإعلان

جامع الملكة صفية… تحفة معمارية على أرض مصرية

 

كتبت: سارة الليثي

موقعه

يقع المسجد في حي الجبانية في ميدان يعرف الآن باسم الملكة صفية بشارع محمد علي بالدرب الأحمر، ويتبع منطقة آثار جنوب القاهرة .

سبب تسميته

  يقول الأستاذ الدكتور”مجدي علوان”- رئيس قسم الآثار بكلية الأداب جامعة أسيوط-: الملكة “صفية” هي زوجة السلطان “مراد الثالث” وقد كانت أسيرة أوروبية من أسرة بافو النبيلة في فينيسيا، وكان ابوها حاكماً على جزيرة كورفو. كانت في رحلة بحرية في سفينة مع بعض السيدات النبيلات في طريقها إلى والدها.. وتعرضت سفينتها لعملية قرصنة بحرية، وكانت وقتها فائقة الجمال ولا تزال في الرابعة عشرة من عمرها. واستقر بها الحال إلى أن بيعت والحقت بالقصر الملكي في استانبول..

   تقربت من السلطان مراد الثالث وأعتنقت الإسلام فتزوجها السلطان وفي 974هـ (1567م) ولدت له السلطان محمد خان الثالث. وقد تولى ولدها السلطان محمد خان السلطنة 1595م فزاد نفوذها ولعبت دورا في سياسة الدولة. وهي لم تحضر إلى مصر إطلاقاً ولكن أحد مماليكها يدعى “عثمان أغا” هو الذي أنشأ المسجد وأطلق عليه اسمها وكان ذلك عام 1011هـ. وعلى اللوحة التذكارية الثمينة الموجودة على الباب الأوسط للمسجد كتب عليها: “أنشأ هذا الجامع المبارك المعمور بذكر الله تعالى صاحبة الخيرات الدرة الشريفة والدة المرحوم مولانا السلطان محمد خان طاب ثراه على يد فخر الخواص المقربين مولانا إسماعيل أغا الناظر الشرعي على الوقف المذكور”.

بناءه

   يرتفع المسجد من الأرض نحو أربعة أمتار، ولذا يسمى “المسجد المعلق”، ويبلغ عدد درجات السلم المؤدية للمداخل الثلاثة بالمسجد 18 درجة تبدأ من أسفل بإتساع عظيم وتأخذ في الصغر عند الإرتفاع إلى المدخل وهي على شكل نصف دائرة. أما المسجد من الداخل فصمم على شكل مستطيل، وينقسم إلى قسمين: الأول عبارة عن صحن أوسط شبه مربع مكشوف و محاط بأربعة أروقة سقوفها على شكل أجزاء من كرة.. و للصحن ثلاثة أبواب يؤدي كل منها إلى ممر مغطى بقباب محمولة على أعمدة من حجر الجرانيت الصلب وهي من أندر القباب في مساجد العصر العثماني حيث يصل ارتفاعها إلى نحو 6,71 متر وبها شبابيك مغطاه بالرخام الملون..

     وفي الجانب الشرقي لمربع القبة يوجد المحراب وهو تجويف داخل مستطيل في الجدار، وإلى يمين المحراب يوجد المنبر وهو من الرخام المزخرف بزخارف هندسية ونباتية وإسلامية دقيقة التفاصيل، ومن الخارج توجد المئذنة وهي على الطراز العثماني بسيطة ومدببة الشكل يعلوها الهلال تشبه القلم الرصاص المبري ويكسوها الرصاص وهي قائمة عند الطرف الشرقي للجانب القبلي لصحن المسجد. ويضيف الأستاذ الدكتور “مجدي علوان”: أن تخطيط هذا المسجد من التخطيطات المهمة في مصر العثمانية، ويسمى تخطيط عثماني وافد أي أنه أتى من تركيا، وهو يمثل حلقة مهمة في تطور العمارة العثمانية في مصر، ويوجد نموذج آخر لهذا التخطيط وهو مسجد سليمان باشا الخادم بقلعة الجبل في القاهرة.

   وهذا المسجد ليس به قبر حيث لم تدفن به الملكة صفية، وإنما هو يحمل اسمها فقط، بينما دفنت الملكة صفية في تركيا.

الأهمية التاريخية

   يعتبر هذا المسجد ثالث المساجد العثمانية في مصر بعد جامع سليمان باشا في القلعة وسنان باشا ببولاق. ويقول الدكتور “علي حسن عبد الله” مدرس الآثار و الحضارة الإسلامية بقسم الآثار كلية الأداب جامعة أسيوط: أن الأهمية التاريخية للمسجد تنبع من كون المسجد منسوب لسيدة (الملكة صفية)، وهذا يبرز دور المرأة في الحضارة الإسلامية وخدمة المجتمع وإقامة المنشآت في العصر العثماني.