لـ/ فؤاد زكريا
الكتاب عبارة عن مقالات للكاتب المفكر فؤاد ذكريا نشرها في فترة الثمانينات في مجلة العربي الكويتية، وتم تجميعها في ذلك الكتاب من قبل مشروع مكتبة الأسرة، وقدم الكتاب الدكتور محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية، وصُنف الكتاب في ثلاث فصول، كل فصل يضم مقالات تندرج تحت موضوع واحد، فموضوع الفصل الأول كان عن الثقافة العربية، وقد تضمن ستة مقالات، تناول فيهم وضع الثقافة في مجتمعاتنا العربية وتعريف الثقافة وأهميتها في النهوض بالمجتمعات، وجدلية الأصالة والمعاصرة في الثقافة وأهمية التوفيق بين الجانبين للنهوض بثقافتنا الحالية، فلا ننغمس في أمجاد الماضي ونكتفي بها لنعيش حاضرنا ومستقبلنا على ذكراها، ولا نتنكر لماضينا ونلهث وراء كل ما يأتينا من الغرب دون تمييز بدعوى المعاصرة واللحاق بركب الحضارة!
كما تطرق لأزمة تعريب وترجمة العلوم والثقافات الأجنبية في حاضرنا العربي، وقارنها بحركة الترجمة في بداية الدولة الإسلامية والتي كانت سبباً كبيراً في إزدهار الحضارة والثقافة الإسلامية آنذاك بعدما أخذوا من علوم وفلسفة الإغريق والفرس وبلاد الهند، وهضموها واستوعبوها ليخرجوا بثقافاتهم وفلسفتهم الخاصة، وأشاد بأمانتهم ودقتهم العلمية في الترجمة آنذاك، بينما أشار أن في وقتنا الحالي تخضع الترجمة لآليات السوق، وحتى يحظى الكتاب المترجم بالرضا والاقبال الشرائي يلجأ المترجم أحياناً إلى تحريف محتوى الكتاب بما يتناسب مع العقليات السائدة مما يخرج به مغايراً تماماً لما قصده مؤلفه الأساسي!
وتطرق أيضاً إلى مفهوم الأمن الثقافي وما يوحي به إلى توفير الحد الأدنى من الثقافة، كالأمن الكسائي والأمن الغذائي، وهذا غير مقبول في الثقافة حيث لا يوجد حد أدنى، والإنسان يحتاج دائماً أن ينهل من الثقافة دون اكتفاء، كما أشار إلى الهوة الثقافية بين جيلي الكبار والشباب، وأرجعها إلى حرص الكبار دائماً على التمسك بالقديم والتطرف أحياناً في ذلك، كما أشاد بتجربة الكويت الثقافية المتمثلة في اصداراتها التي غزت العالم العربي وقتها لجودتها الثقافية والفكرية وأيضاً جودة اخراجها الفني كمجلات العربي وعالم الفكر وغيرها كثير من الإصدارت التي استحوذت على اهتمام مثقفي العالم العربي في مختلف المجالات.
أما الفصل الثاني فكان عنوانه الفكر والممارسة في الوطن العربي، وقد تضمن ستة مقالات أيضاً، تناول فيها قضية الإيمان والعلم بما تضفيه من جمود على التفكير العلمي بمحاولة تفسيره دائماً بالنص الديني، فإذا لم يتوافق معه أو لم يوجد له تفسير ديني، يتم انكار ما توصل له العلم ووصمه بالكفر والإلحاد، وهي قضية جدلية انتهت منذ زمن طويل في الدول المتقدمة ولكننا لازلنا نعيش في هرائها مما يعيق تقدمنا ولحاقنا بركب الحضارة، وبالطبع يرتبط كل ذلك في مجتعاتنا بفكر الطاعة العمياء دائماً التي تتسلط على تفكيرنا، ففي كل مجال وموقع هناك سلطة يستوجب عليك طاعتها طاعة عمياء دون أن يكون لك حق التفكير والنقاش، بدءاً من الأب والزوج في البيت، مروراً برؤساء العمل والمسئولين الحكوميين، وصولاً لرئيس الدولة الذي يلعب دور الأب لشعبه ومن هذا المنطلق يستوجب عليهم احترامه وطاعته دون نقاش!
ويشير أنه في الوقت الذي لا يتورع العربي عن استيراد كافة احتياجاته من الإبرة للصاروخ -كما يقال- من دول الغرب، ولكنه ينظر إلى الأفكار التقدمية الغربية باحتقار كونها أفكار مستوردة دخيلة على التراث الثقافي العربي، فيما يؤكد الإزدواجية الفجة لهذا التفكير العقيم، وفي مقال أسطورتان عن الحاكم والأعوان، أشار إلى تلك التبريرات الواهية التي تبرر دائماً الديكتاتورية والظلم في المجتمعات العربية، فإما أن الحاكم بريء مغلوب على أمره إذ أن أعوانه هم من يقومون بهذه الأفعال دون علمه، أو أن الأعوان هم المغلوبين على أمرهم إذ أن الحاكم هو من يأمرهم بتلك الأفعال وهم فقط يؤدون دور “عبد المأمور” خوفاً من بطشه، والأسطورتان لا ينفيا المسئولية عن الطرفين –الحاكم وأعوانه- إذ ليس عذراً أن الحاكم لا يدري بما يجري في البلد التي يحكم، إذ هو عذر أقبح من ذنب، وليس عذراً للأعوان أنهم ينفذون أوامره إذ أن من واجبهم أيضاً في تلك الحالة الخروج عليه ومصارحة الشعب بحقيقته وفضحه وعزله.
تناول أيضاً قضية الإرهاب من زاوية عربية، وعدم جدوى تبرير العمليات الإرهابية العربية كونها رفضاً للظلم الواقع على المجتمعات العربية ولفت نظر العالم للقضايا العربية والعدوان الواقع عليها، إذ أن ذلك وإن كان صدقاً إلا إنه يفقد تلك القضايا أي تعاطف عالمي معها بل يجعل مواطني ذلك العالم الغربي يعتاطفون مع حكوماتهم أكثر في حربهم المعلنة ضد الإرهاب العربي والإسلامي كما يصدرونه لهم وتؤكده لهم تلك العمليات الإرهابية، والتي لا تصلح إلا كعمليات انتقامية ليست لكسب التعاطف أو التأييد، وإنما تنفيذاً لمقولة علي وعلى أعدائي، ولكن في هذه الحالة سيتحول العالم إلى غابة يُقتل فيها الأبرياء على الدوام بينما ينعم الوحوش الذين يديرون تلك الحروب بحياة هانئة مليئة بالرفاهية!
في المقال الأخير من الفصل الثاني تناول بالنقد والتحليل كتاباً لمفكر أمريكي في تحليل العقل العربي اعتمد فيه على رؤيته الشخصية وشهادات أناس لا صفة لهم ولا يعرف أحد عنهم شيئاً؛ ليصل بقارئه إلى حقيقة واحدة مؤكدة، وهي أن العربي هو انسان كذاب كسول يعتمد على الغير دائماً ويسلك طريق العنف والإرهاب لإيصال أفكاره واثبات ذاته، حقيقة الأمر أن كثير مما أورده ذلك الكاتب الأمريكي له نماذج حقيقية عديدة في مجتمعاتنا العربية للأسف، ولكن سياسة التعميم بلا شك أمر غير مقبول فيما يُفترض أنه بحثاً موضوعياً يعمد إلى الوصول للحقائق لا اثبات وجهات نظر شخصية بحتة!
الفصل الثالث تناول موضوعات تتعلق بتسليط الضوء على تجارب العالم في مجالات مختلفة، فقد تناول تجربة أمريكا كدولة في نشأتها وصولها إلى مرتبة قيادة العالم، ولعبة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي يقف العالم على قدم وساق كل أربع سنوات (في السنة الكبيسة) انتظاراً لنتيجتها، وأرى أنه انتهج نفس نهج الكاتب الذي انتقده في الفصل السابق عندما تناول العقل العربي؛ فقد شعرت هنا أيضاً أن فؤاد زكريا له وجهة نظر شخصية حول أمريكا والمجتمع الأمريكي ويحاول اثباتها بهذه المقالات، فكما كان الكاتب الأمريكي ذاك محقاً في بعض الأمور ولكنه أخطأ بتعميمها واطلاق أحكام مطلقة بناءاً عليها كذلك فعل فؤاد زكريا عندما تناول تجربة أمريكا والشعب الأمريكي في مقالاته.
وتناول أيضاً ف مقالين فكر التسلح واحتمالات قيام حرب نووية والنتائج المترتبة عليها إذا ما ظل هناك أحياء مما قد يغير وجه العالم ويدحض الأسباب التي قد تقوم لأجلها تلك الحرب، مما يجعل النية باشعالها أمراً مستحيلاً وهو ما يعني ان انفاق تلك المليارات من دول العالم في التسليح النووي هو أمر لا مثيل له من الجنون، حيث تحرم الشعوب من تلك الموارد المالية التي قد تكفي لإنهاء المجاعات وتطوير الدول النامية والنهوض بها لأجل الإنفاق على أسلحة لن تستعمل أبداً!
كما تناول قضية العقول الإلكترونية والبشرية، وأن الأولى لا يمكنها أن تقضي على الثانية أبداً، ولكنها توفر وقتاً ومجهوداً في انجاز العمليات المعقدة وتوفير آليات البحث، مما يوفر وقتاً للعالم في الإبداع والتأليف، وفي هذا المضمار يجب علينا في دولنا العربية تطوير نظمنا التعليمية لتتوافق مع هذا العصر لتنمية ملكات الإبداع والتفكير بدلاً من الاعتماد فقط على ملكة الذاكرة والحفظ التي لم يعد لها مجال في عصرنا ذاك حيث تقوم بها الأجهزة الالكترونية على أكمل وجه بينما يجب على العقل البشري أن يقوم بالابداع والابتكار والتأليف.
أفرد مقالاً عن الفيلسوف الفرنسي سارتر وفكره الوجودي ورؤيته للإنسان، وفي آخر مقال تناول الموسيقى واختلاف رؤيتها بين الغرب والشرق حيث ترتبط في بدايتها لدى الغرب بالتراتيل الكنسية مما يضفي عليها القداسة والاحترام، بينما ترتبط في الشرق بالرقص والجواري والمتعة مما يضفي عليها جانباً حسياً مبتذلاً يدفع بعض المتشددين إلى تحريمها، “بينما لو عرفوا شيئاً عن ذلك السمو الروحي الذي تستطيع الموسيقى أن توصلنا إليه، لأدركوا كم كانت نظرتهم محدودة وضيقة عندما اقتصروا –في نظرتهم إلى هذا الفن- على أشد تجاربه سطحية وابتذالاً”.