إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، تلك الجملة التي كنا نبدأ بها دائماً اذاعتنا المدرسية لتقديم آيات القرآن الكريم، القرآن الذي هو الكتاب الأول والمعلم الأول للبشرية، الذي جمع كل العلوم والآداب بين دفتيه، فالقرآن تحدث في العلوم الطبية والفلكية والمواريث والعلاقات الاجتماعية والأسرية والتاريخ والقصص والأدب، وأصل هذه الجملة جزء من كلام طويل لـ “الوليد بن المغيرة” يصف فيه القرآن الكريم وبلاغته.
وهذه الجملة هي كناية عن عذوبة ألفاظ القرآن الكريم وجزالتها وحلاوتها وقوة تركيبه وسمو معانيه وأخذه بمجامع القلوب وعلوه على كل كلام. فعن “ابن عباس” (رضي الله عنهما): أن “الوليد بن المغيرة” جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فانطلق فقعد إلى جنب عمه “الوليد” حزيناً فقال له “الوليد” مالي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ فقال: وما يمنعني أن أحزن؟ وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد وإنك تدخل على ابن أبي كبشة وابن قحافة لتنال من فضل طعامهم.
فغضب “الوليد” وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرها مالاً وولداً؟ وهل شبع محمد وأصحابه ليكون لهم فضل؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال لهم: تزعمون أن محمداً مجنون فهل رأيتموه يحنق قط؟ قالوا اللهم لا، قال: تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟ قالوا اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب؟ قالوا لا، فقالت قريش للوليد فما هو؟ قال: وماذا أقول؟! فو الله ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وأنه يعلو وما يعلى عليه.، وإنه ليحطم ما تحته.
فقال له أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! فتفكر في نفسه ثم نظر وعبس فقال: ما هو إلا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر. فنزل قول الله في سورة المدثر : “إنه فكر وقدر. فقتل كيف قدر” رواه الحاكم والبخاري. فالقرآن الكريم هو معجزة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلكل نبي معجزة ومعجزة محمد (صلى الله عليه وسلم) القرآن، فقد أرسل لقوم يبرعون في الشعر والنظم واستخدام اللغة وربي هو بينهم أمياً لا يجيد القراءة والكتابة.
فكانت بلاغة القرآن معجزة لا يستطيعون مجاراتها من أمي لم ينظم الشعر يوماً لذلك اتهموه بالسحر والجنون وأن هناك من يؤلف له آيات القرآن ليدعي انها من عند الله، ولكنه سبحانه وتعالى رد على كل مزاعمهم تلك في محكم آياته، فلم تكن آيات القرآن الكريم والمواضيع التي تناولتها وقصص الأولين التي لم يعاصرها أحد منهم بمقدور انسان ما أن يصوغها وأن يعرف حججهم وأقاويلهم ومزاعهم فيرد عليها قبل أن يذيعوها مما كان دليلاً قاطعاً على أن هذا الكتاب رسالة سماوية من الله وحده.