شيخ المجاهدين …. عمر المختار

كتبت: سارة الليثي

   هو عمر بن مختار بن عمر بن فرحات بن محسن بن حسن بن عكرمة بن الوتاج بن سفيان بن خالد بن الجوشافي بن طاهر بن الأرقع بن سعيد بن عويده بن الجارح بن خافي بن هشام بن مناف الكبير. من بيت فرحات من قبيلة بريدان وهي بطن من قبيلة المنفة أو المنيف والتي ترجع إلى عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أولى القبائل الهلالية التي دخلت برقة.

   أمه هي عائشة بنت محارب. وُلد عمر المختار في البطنان ببرقة في الجبل الأخضر عام  1862 وقيل عام  1858، وله أخ يدعى محمد، وعني أبوهما بتربيتها تربيةً إسلاميَّة حميدة، ولكنه لم يلبث أن توفي وهو في طريقه للحج؛ فعهد في وصيته بتربيتهما إلى شقيقة الشيخ حسين، ومكث عمر المختار في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم: السيّد الزروالي المغربي، والسيّد الجوّاني، والعلّامة فالح بن محمد بن عبد الله الظاهري المدني، وغيرهم كثير.

   وقد شهد له شيوخه بالنباهة ورجاحة العقل ومتانة الخلق وحب الدعوة، ومع مرور الزمن وبعد أن بلغ عمر المختار أشدَّه، اكتسب من العلوم الدينية الشيء الكثير ومن العلوم الدنيويَّة ما تيسَّر له، فأصبح على إلمام واسع بشئون البيئة التي تحيط به وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها، وتوسَّع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض وبتقاليدها وعاداتها ومواقعها، وتعلَّم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية وما يتطلبه الموقف من آراء ونظريات.

    كما أنه أصبح خبيراً بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها.

  وفي عام 1911 أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية، وبدأت إنزال قوَّاتها بمدينة بنغازي الساحلية شمال برقة. وفي تلك الأثناء كان عمر المختار في مدينة الكفرة بقلب الصَّحراء في زيارة إلى السنوسيين، وعندما كان عائداً من هناك علم بخبر نزول الإيطاليين، فعاد مسرعاً إلى بلدة زاوية القصور التي كان حاكماً عليها لتجنيد أهلها من قبيلة العبيد لمقاومة الإيطاليّين، ونجح بجمع 1,000 مقاتل معه. والتحقوا بالجيش العثماني. وفي عام 1912 اندلعت حروب البلقان، فأجبرت الدولة العثمانية على عقد صلحٍ مع إيطاليا.

 واضطرَّ نتيجةً لذلك قائد القوات العثمانية التي تقاتل الإيطاليين- عزيز بك المصري على الانسحاب إلى الأستانة، وسحب معه العسكر العثمانيّين النظاميّين في برقة الذين بلغ عددهم نحو 400 جندي بينما ظلَّ عمر المختار في موقع قيادة القتال ضد الطليان بكامل برقة، وشهدت هذه الفترة أعنف مراحل الصّراع ضد الطليان، وقد تركَّزت غارات وهجمات عمر المختار فيها على منطقة درنة. ومن أمثلة هذه الغارات معركة هامة نشبت في يوم الجمعة 16 مايو عام 1913 دامت لمدّة يومين، وانتهت بمقتل 70 جندي إيطالي وإصابة نحو 400 آخرين. 

  واتَّبع عمر المختار في كفاحه ضد الطليان أسلوب الغارات وحرب العصابات، فكان يصطحب معه 100 إلى 300 رجل في كل غارة ويهجم ثم ينسحب بسرعة، ولم يزد أبداً مجموع رجاله على نحو ألف رجل، مسلَّحين ببنادق خفيفة عددها لا يتعدَّى ستة آلاف، وقد شكَّل هذا بداية الحرب الضروس بين عمر المختار والطليان، تلك الحرب التي استمرت 22 عامًا ولم تنتهي إلّا بأسر المختار وإعدامه. ففي شهر أكتوبر سنة 1930 تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثر الطليان عقب انتهائها على نظّارات عمر المختار، كما عثروا على جواده المعروف مقتولاً في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار ما زال على قيد الحياة.

    وأصدر غراتسياني منشورًا ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على “أسطورة المختار الذي لايقهر أبدًا” وقال متوعداً: “لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغدًا نأتي برأسه”. وفي 11 سبتمبر من عام 1931 توجَّه عمر المختار بصحبة عدد صغير من رفاقه لزيارة ضريح الصحابي رويفع بن ثابت بمدينة البيضاء وكان أن شاهدتهم وحدة استطلاع إيطالية، وأبلغت حامية قرية اسلنطة التي أبرقت إلى قيادة الجبل باللاسلكي، فحرّكت فصائل من الليبيين والإرتريين لمطاردتهم. وإثر اشتباك في أحد الوديان قرب عين اللفو، جرح حصان عمر المختار فسقط إلى الأرض، وتعرّف عليه في الحال أحد الجنود المرتزقة الليبيين.

   يقول غراتسياني في مذكراته أنَّه خلال الرحلة إلى بنغازي بعد أسر عمر المختار، تحدَّث بعض السياسيين معه ووجهوا إليه الأسئلة، فكان يجيب بكل هدوء وبصوت ثابت وقوي دون أي تأثر بالموقف الذي هو فيه. لكن ما فاجأ الطليان كان هدوء الأسير وصراحته المُذهلة في الرد على أسئلة المُحققين بثباتٍ تام ودون مراوغة، إذ قال لهم: “نعم قاتلت ضد الحكومة الإيطالية، لم أستسلم قط. لم تخطر ببالي قط فكرة الهرب عبر الحدود. منذ عشر سنوات تقريبًا وأنا رئيس المحافظية. اشتركت في معارك كثيرة لا أستطيع تحديدها. لا فائدة من سؤالي عن وقائع منفردة. وما وقع ضد إيطاليا والطليان، منذ عشر سنوات وحتى الآن كان بإرادتي وإذني. كانت الغارات تُنفَّذ بأمري، وبعضها قمت به أنا بنفسي. الحرب هى الحرب. أعترف بأنه قُبض عليّ والسلاح بيدي أمام الزاوية البيضاء في غوط اللفو، هل تتصورون أن أبقى واقفًا دون إطلاق النار أثناء القتال؟ ولا أشعر بالندم عمَّا قمت به”.

    في صباح اليوم التالي للمحاكمة، أي الأربعاء في 16 سبتمبر 1931، اتُخذت جميع التدابير اللازمة بمركز سلوق لتنفيذ الحكم بالإعدام بإحضار جميع أقسام الجيش والميليشيا والطيران، وأُحضر 20 ألف من الأهالي وجميع المُعتقلين السياسيين خصيصاً من أماكن مختلفة لمشاهدة تنفيذ الحكم في قائدهم. وأُحضر المُختار مُكبَّل الأيادي وفي تمام الساعة التاسعة صباحاً سُلَّم إلى الجلّاد، وبمجرد وصوله إلى موقع المشنقة أخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الإعدام على انخفاض، وبصوت مدوّي لمنع الأهالي من الاستماع إلى عمر المختار إذا تحدث إليهم أو قال كلامًا يسمعونه، لكنه لم ينبس بكلمة.

     وسار عمر المختار إلى منصة الإعدام وهو ينطق الشهادتين، وقيل عن بعض الناس الذين كانوا على مقربة منه أنه كان يأذن في صوت خافت آذان الصلاة عندما صعد إلى الحبل، والبعض قال أنه تمتم بالآية القرآنية: “يا أيتها النفس المطمئنة* ارجعي إلى ربك راضية مرضية”، وبعد دقائق كان قد عُلّق على المشنقة وفارق الحياة، وقد رثا أمير الشعراء أحمد شوقي عمر المختار بأبياتٍ من الشعر قال فيها:

إفريقيا مهد الأسود ولحدها …. ضجت عليك أراجلاً ونساء

والمسلمون على اختلاف ديارهم …. لا يملكون مع المصاب عزاء

والجاهلية من وراء قبورهم …. يبكون زيد الخيل والفلحاء

في ذمة الله الكريم وحفظه …. جسد ببرقة وأسد الصحراء

الإعلان