بقلم: سارة الليثي
الكتابة هي مهارة وموهبة يمكن لأي أحد أن يكتسبها بالتدريب والمران، وفي دول الغرب المتقدم يستخدموا الكتابة كعلاج مع كثير من الأمراض منها: الأمراض النفسية والسرطان وعلاج الإدمان، ففي مقال نشرته البروفيسورة “كونستانس سكارف” في مجلة (Ending addiction for good) قالت إن كتابة الشخص عن نفسه وعن تجاربه الخاصة لمدة 15 دقيقة يومياً تحسّن وتقي من اضطرابات المزاج (الاكتئاب مثلاً) وتحسن من الصحة الجسدية بعد التعرض لسكتة قلبية كما أنها تقلل من حاجتك لزيارة الطبيب وتحسّن الذاكرة.
ومن بين الدراسات أيضاً حول هذا الموضوع دراسة أجراها الباحثان “كارين بايكي، وكاي ويلهيلك”، والتي أفادت بأن الكتابة التعبيرية تنفع بشكل كبير في أوقات الضغط والتوتر والحزن والغضب، وأن الكتابة عن حدث مؤلم حصل في الماضي يحسّن من الصحة النفسية والجسدية التي تسبب الألم بتدهورها، كما أن دمج الكتابة التعبيرية في الخطة العلاجية يعطي مفعول الدواء نفسه. والمذهل أن هذا العلاج قد أفاد بالفعل مع حالات كثيرة ونالوا الشفاء، والعلاج بالكتابة يكون من خلال أن يكتب المريض أي شيء يريده يعبر به عن مكنونات نفسه ويُخرج كل ما في داخله على الورق بأي صورة شاء سواء شعر أو خواطر أو قصص او مذكرات أو أي بأي شكل يهواه!
لذا فقد فكرت لماذا ننتظر أن نكون مدمنين أو مرضى نفسيين أو مرضى سرطان -لا قدر الله- لكي نكتب؟! أوليس الوقاية خير من العلاج؟! لذا فليبدأ كل شخص من الآن أن يكتب ويخرج كل ما يعتمل في داخله على الورق: احباطاته نجاحاته فرحه حزنه سعادته تعاسته حبه كرهه، كل شيء نستطيع أن نخرجه على الورق ونشاركه مع غيرنا أو نشاركه مع الورق والقلم فقط، فالكتمان هو الذي يسبب الأمراض، والكتابة تشفينا منها، فالكتابة حياة وخلود.
يقول الكاتب طالب الرفاعي عن الكتابة: أكتب لأن الكتابة هي النافذة الكبيرة المُشرعة أمامي. أكتب لأنني تعودت أن أرى في الكتابة فسحة تمكّنني من الهروب إلى الحرية والحلم والأمل.. أكتب لكي أستطيع أن أبقى متوازناً في معيشتي اليومية، ولأن الكتابة تقدّم لي السلوى والعزاء والأمان في لحظة إنسانية عاصفة يخيّم عليها القتل والدمار واللاعدالة.. أكتب، لأن الكتابة أصبحت هاجساً يستبيحني ويطاردني ليلَ نهار، وفي أحايين كثيرة يفسد عليّ أيّ متعة أعيشها.. أكتب لأن هناك في داخلي الكثير الذي يدفعني لأن أصرخ، موقناً أن الكتابة هي الصرخة الأبقى، والأعلى، وهي الصرخة الماكرة التي تستطيع أن تحمل أكثر من نبرة، وأكثر من كلمة في الصوت نفسه.
ولكن القدرة على الكتابة الأدبية الراقية لا تنمو تلقائياً، وإن كان يسهل تنميتها كأي موهبة ومهارة لدى الإنسان إن أراد صدقاً تنميتها، وهذا يقودنا إلى التفريق بين نوعين من الكتابة:
- الكتابة اليومية المعتادة التي يكتسبها الانسان بصورة طبيعية لتيسير أموره الحياتية، وهي تشبه القدرة على المشي والتفكير غير أنها تحتاج لمن يعلمك إياها في البداية بخلاف المشي والتفكير الذي يكون فطرياً.
- الكتابة الأدبية التي تتطلب تعليماً منظماً هادفاً ومراناً مستمراً حتى يمكن أن تبلغ أقصى مدى لها، وهذا النوع يشبه القدرة على تسلق الجبال أو السباحة الإيقاعية وغيرها من المهارات التي تتطلب تدريباً وتعليماً مميزاً.
وعليه فإن الكتابة الأدبية ليست مجرد قدرة طبيعية ترافق النمو الطبيعي للإنسان، ولكن يمكن تنميتها واكتسابها لكل انسان عن طريق المعرفة بأدوات ومهارات الكتابة والقراءة المستمرة في مختلف المجالات. في عام 1979، وفي عمر الثمانين بدأت “جيسي بي براون” تكتب قصة حياتها. كتبت حكايات عن ماضيها، عن جدتها وعمتها كلارا التي كانت تمضغ التبغ ويمكنها أن تُسدّد بصقات بحجم كريات الزجاج. في كل صباح كانت تتوجه إلى مطبخ شقتها حيث ربّت ثمانية أبناء. تجلس إلى طاولة المطبخ ثم تشرع في الكتابة مستعينة بدفاتر القص واللصق القديمة والرسائل والصور الفوتوغرافية.
ويوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، كتبت بخط يدها قصة حياتها، مسجلةً الأحداث المفصلية: المواليد، الوفيات، زيجة واحدة، ثلاثة حروب، فيضان واحد، جنباً إلى جنب مع الأشياء التي أشعلتْ خيالها، مثل المرة الأولى التي رأت فيها لورانس ويلك. وبعد أن أتمت حكي أحداث حياتها، بدأت تكتب عن العالم الذي لم تتحدث عنه قط من قبل، عن مشاعرها وأفكارها. طبعت الكلية المحلية لها كتاباتها بعنوان حياة جيسي بي براون من الميلاد حتى سن الثمانين، في ثلاثين نسخة فقط تم توزيعها على الأسرة والأصدقاء.
أما الآن فإن العالم كله بمقدوره قراءة كتابها ذي المئتي وثمانية صفحة، بعنوان Any Given Day أي يوم متاح: حياة وأزمنة جيسي بي براون فوفوكس: ذكريات لأمريكا القرن العشرين [مطبوعات دار بروكس، 1997]. ومنذ أن كتبتْ كتاب مذكراتها الأول، أنجزت جيسي لي كتابين آخرين، أشهرهما هو ثرثرات جدة حول هذا وذاك Granny’s Ramblings of This and That Two، وتمت طباعته في 1993. في ذلك العام كتبت رسالة إلى المعلم الذي شجّعها على حكي قصتها، قائلة: “شكراً لك كل الشكر لأنك لم تفقد الأمل فيّ. أنا لستُ كاتبة، غير أن مجهودي الضئيل صنع اختلافاً هائلاً في حياتي”.
لقد حكت جيسي بي قصتها. واشترتْ وارنر [شركة الإنتاج السينمائي] قصتها مقابل مليون دولاراً. (القصة من كتاب “كيف تكتب رواية في 100 يوم أو أقل” للكاتب “جون كوين”)، فحياة كل شخص يمكن أن تكون قصة متفردة لا شبيه لها مهما ظننا أن حياتنا عادية لا شيء مثير فيها، فيكفي ما يتخلل حياتنا من مشاعر صادقة واحباطات ونجاحات لتصنع قصة متكاملة جاذبة، وقصة “جيسي بي” هي تأكيد واضح على جوهر وفكرة مبادرة #طلع_الكاتب_اللي_جواك، فهي توضح بشدة كيف أن شخص ما لم يكن له أي علاقة بالكتابة يوماً ولم يتمتع بالموهبة الفذة من قبل بل وفي نهايات العمر أيضاً -كما يقولون-، يستطيع أن يبدع ويكون كاتباً فذاً فقط إذا أراد ذلك.
فالكتابة لا تتوقف عند سن معين ولا مرحلة معينة، فهي تتجاوز كل الحدود والعوائق والظروف المختلفة، وكل انسان منا له قصته الخاصة التي يمكنه البدء منها، فكل حياة على تلك الأرض بها من الأحداث والمشاعر ما يصلح للكتابة عنه سواء شعراً أو خاطرةً أو قصصياً، فقط فلنمسك القلم ونبدأ. فالكتابة تساعدنا على تخطي أنواع مختلفة من المصاعب، ليس فقط للتعبير عن ذواتنا وإنما هي أيضاً تقضي على خوفنا الدائم من ارتكاب الأخطاء، ففي الكتابة ندرب عقولنا على التفكير لاختيار الكلمات الملائمة، وهذا يساعدنا بشكل تلقائي عند التحدث مع الآخرين، حيث يكون المخ قد تدرب كثيراً على اختيار الكلمات الملائمة لكل حديث ولكل موقف.
كذلك فإننا نشعر بالراحة بصورة أكبر عندما نكتب، فلا يوجد شخص ينتظر إجابة، ولا يوجد خوف من الفهم الخاطئ أو عدم القدرة على التعبير بشكل جيد عن ما نشعر به. ولذا فالكتابة تعطينا شعور أكبر بالحرية، كما أنها توفر لنا مزيداً من الوقت للبوح بكل ما نريده أكثر من التحدث مع الآخرين، وهذا يساعدنا على أن نرى كل شيء واضحاً أمامنا، ومن ثم نستطيع تحسين أخطائنا والتعلم منها. الكتابة ليست فقط قصص وروايات وأشعار مكتوبة بشكل احترافي بغرض الكسب المادي، بل هي في المقام الأول تعبير عن الذات.
أكتب عن نفسك لتستطيع أن تكتب عن الآخرين، وأكتب عن نفسك لتعرفها أكثر، لتساعدها على تجاوز مشكلاتها، وتخطي كل ما يقابلها. أكتب لتساعد نفسك، أكتب لتنقذ نفسك، أكتب لتحيا. نصيحة أخيرة: خصصوا خمس دقائق في يومكم للكتابة، اكتبوا عن أحداث اليوم، صفوا مشاكم خلال اليوم، أو علقوا على حدث أو موقف ما أثار انتباهكم، اكتبوا بأي طريقة، مذكرات- وصف تفصيلي- خواطر- شعر- قصة، لا تهتموا باللغة في هذه المرحلة، فقط اخرجوا كل ما تفكرون فيه وتشعروا به على الورق. فالكتابة تساعد على تفريغ الشحنات السلبية وزيادة الثقة بالنفس ورفع مستوى الرضاء الذاتي.