في أول أيام شهر فبراير عام 1953م في قرية الرزيقات مركز أرمنت محافظة قنا المصرية، وضعت الأم وليدها الذي سبقه أربعة أشقاء وثلاث شقيقات، كان طفلاً عادياً كغيره من الأطفال ولكن عندما أتم من عمره عامان ونصف العام أصيب بحمى شديدة أدت إلى فقده لبصره وإصابته بشلل الأطفال، وحاول أهله علاجه كثيراً ولكن كل الأطباء أجمعوا على أنه لا علاج له، وحاول بعض الأهل والمعارف اقناع والديه بالقاءه في الطاحونة ليموت ويتخلصوا من عبئه، ولكن بعاطفة الأمومة والأبوة رفضا ذلك رفضاً قاطعاً.
حاول والديه استثمار امكانياته قدر المتاح فألحقوه بالكتاب في القرية، وبعد سنة انتقلوا إلى القاهرة لظروف عمل الأب؛ فأحضروا أحد المشايخ من الأقارب ليستكمل تعليم القرآن له في البيت حتى أتم حفظ القرآن بالفعل ووعاه وفهمه وادرك معانيه وتفسيره، ولكنه ظل حبيس المنزل حتى بلغ السادسة عشرة من عمره دون الالتحاق بأي مدرسة، وكان الراديو هو رفيقه الوحيد طوال هذه المدة؛ فتعلم منه أمور الثقافة والسياسة والاقتصاد، وتعلم اللغة الانجليزية وأتقنها من الراديو حيث كان مواظباً على متابعة البرنامج الأوروبي.
كان يسمع في الراديو مسلسل “الأيام” عن السيرة الذاتية للدكتور “طه حسين” وكان يتمنى أن يحذو حذوه ويحقق ذاته مثله. كان يحلم أن يصبح خطيباً وإماماً واعظاً حتى إنه كان وهو في الخامسة من عمره يقف كل يوم في فناء المنزل يقرأ القرآن الكريم بصوت عال، ويخطب وكأنه خطيباً يخطب في جمع من الناس، وكان الناس من الجيران والمارة يتجمعون حوله بالفعل ما بين معجب بصوته وقوة شخصيته وساخر مستهزئ يظن أنه مجنون فقد عقله.
بعد أن بلغ السادسة عشرة من عمره أراد أن يتعلم ويلتحق بالمدرسة، وكالعادة اعترض البعض واقترحوا على والديه أن يلحقوه بمركز التأهيل الفني للمكفوفين ليتعلم صناعة السجاد وتكون هذه حرفته وحياته وآخرون رأوا أن يظل حبيس المنزل كما هو فلا فائدة من خروجه وتعليمه، ولكنه صمم على الدراسة وسانده والده وقدم أوراقه لوزارة التعليم؛ فبدأ مباشرة من الصف الأول الإعدادي الأزهري واستثنى من المرحلة الابتدائية لأنه يحفظ القرآن الكريم، ونجح نجاحاً باهراً وانتقل للمرحلة الثانوية.
كان يذهب إلى الدرسة إما محمولاً على الأكتاف أو زاحفاً على الأرض سواء في الصيف أو الشتاء بين الطين والماء الذي يملأ الشوارع، وقد ذكر عدة مرات أنه لا ينسى رجلاً انتشله من الأرض ذات مرة في الشتاء وحمله بالرغم من تلطخ يديه وملابسه بالطين، وأركبه أوتوبيس وطلب من السائق أن يهتم به ويوصله إلى حيث يريد. وعلى الرغم من كل تلك المصاعب إلا إنه قد نجح بتفوق في الثانوية والتحق بكلية أصول الدين، ولم يكتف بشهادة واحدة فقد حصل على شهادتين من كلية أصول الدين لقسمين مختلفين، فقد حصل على ليسانس الدعوة والثقافة الإسلامية عام 1979 ثم أتبعه بليسانس التفسير عام 1983.
وقد عُين في وزارة الأوقاف إلا انه لم يكتف بهذا أيضاً، فحصل على الماجستير عام 1986م بتقدير جيد جداً عن منهاج الإسلام في التنمية الإقتصادية عُين بعدها مدرساً مساعداً في كلية الدعوة، ليحصل بعد ذلك على درجة الدكتوراه بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى، كما أصبح متحدثاً في الإذاعة وله برنامج ثابت، وتدرج وظيفياً إلى أن وصل لرئيس قسم الثقافة الإسلامية بالكلية، ووضع أربعة وعشرين مؤلفاً في الدعوة والتفسير والثقافة والاجتماع، وأشرف على أكثر من سبعة عشر رسالة دكتوراه.
وقد توفي الدكتور زكي عثمان في 30 يناير 2015 عن عمر يناهز 62 عاماً أمضاها في حب العلم والقرآن وتعلمه وتعليمه للناس، لم تثنيه الاعاقة الجسدية ولا تثبيط من حوله لهمته عن الوصول لهدفه، فقد عرف طريقه وغايته وحكمة الله من خلقه فسعى سعياً حثيثاً لبلوغ مقصده لا يؤخره عن ذلك قول محبط ولا شماتة حاسد.